تنفَّس نسر فايمر

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

بَقي مطمورًا تحت أنقاض ذاكرة التاريخ الحديث لأكثر من 120 عامًا ومنذ بزوغ نجم جمهورية فايمر (النظام السياسي في ألمانيا بين عامي 1919 و1933) بلاد الثقافة والفنون والمفرزة الدافئة لولادة النازية من رحم شروط فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، وكان لانتصار النسر الذهبي على التاج والدرع والأذرع البروسية رمزية مُحققة حلّق بها فاغرًا فاهه، ومخرجًا لسانه 14 عامًا في سماء الصراع الألماني المُعقد جنبًا إلى جنب مع صعود الصليب المعقوف؛ ليعود بعد فترة مناورته القصيرة نسبيًا في العمر التقريبي للنسور المُحلقة إلى صورةٍ مطبوعة تجسد الوطنية الآيلة للسقوط دون تحقيق نصر ساحق على الحلفاء تحت القيادة الأمريكية، حتى كادوا يقتسمون تركة الملك البافاري لودفيش الثالث بعد المعاهدة المُجحفة لولا تدخل تدخل رايخ الفوهرر والذي ساعد على إطالة عمر الصراع وتأخير الاستسلام 12 عامًا إضافية.

كان مُقدرًا لنسر فايمر أن يُخلَّد كإشارة جامدة منذ نشأته الأولى وشاهدًا صامتًا عاجزًا عن تقديم أية مساعدة سوى المظهر المرهب المُرعب لأعداء ألمانيا الذين تكالبوا عليها وجردوا مكنون هيبتها من كل شيء تقريبًا حتى قرارها السياسي، وباتت الممول الأول الذي يمد الكيان الصهيوني ببنية الأسلحة اللازمة منذ اتفاقية لوكسمبورج قبل 72 عامًا وبحسب الأوامر الأمريكية نظرًا لجودة صناعة الأسلحة الثقيلة التي خلفها الحزب النازي فضلًا عن التعويضات المليارية لليهود، ولعل ضرورة فهم التساؤلات عن القابعين وراء أكمات القرارات الألمانية والأمريكية مطروحة ومباحة بيد أن الإجابة قد لا تتسنى للجميع مع أنها تتضح بجلاء في نزاهة كتابات مستشرقيهم من الذين لاتميل بهم العواطف القومية أو العرقية.

لقد اعتادت الثقافة الغربية السائدة على الكسب فقط ولا شيء غير الكسب وهو غاية لازمة تُبرر باستباحتها كل الوسائل، وهو معلوم ومُضمَّن في مراحل استعمارهم للشمال والغرب الأفريقي المسلم وما صاحبها من مجازر وإمعان في قتل الأبرياء والهتك والتنكيل بالضعفاء منذ الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي ومحاكم التفتيش لطمس الهوية الإسلامية في إسبانيا وغيرها الكثير، وهم غير مستعدين اليوم للخسارة في الشرق الأوسط الذي يمثل لهم كنزًا يجب اقتسامه وعدوًا وجوديًا يجب مجابهته بكل الطرق المستوية والملتوية والوسائل المباحة والمستباحة والأساليب المحللة والمحرمة، مع عدم إهمال دافع الكبر والغرور في مواصلة التربع على قمة عرش القيادة والاقتصاد والمال وهي جوانب كسبٍ ممتازة تقصي معها الجوانب الإنسانية لتحقيق الغاية واعتبارات مؤقتةٍ يخدعون بها الرأي العام، وهم واقعون دون شعور في مرحلة الخوف المرضي ويحيونه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عدم القدرة على التمييز بين قيم الحق والعدل والمساواة. أما إذا كان فجورهم قد أعمى بصيرة التمييز لديهم فإن العزة والكبرياء لله وحده ولا بُد أن يحيق الفقد والخسران بمن سقط في وحل الضلال القيمي للكبر والمكر ولو بعد حين، وأن الاستبداد أشد الفساد.

كان الدعم الألماني الخفي للجيش الصهيوني لا يُجاهر به لعدم وجود مسوغ منطقي ومقبول بحسب معايير الحروب وموازين القوى؛ باعتبار أن إسرائيل قوة باغية ومدعومة غربيًا، وقد وجدت ألمانيا مُتسعًا للتخفيف عن كبت سياستها المرهونة لعقدة المحرقة والتنفس من فجوات الثقافة النازية الجاثمة على قرارها والمتصلة بالوجود الإسرائيلي في دولة فلسطين ولكن بصفةٍ شرعية يُقنن لها ذلك، حين وجدت 7 أكتوبر فريسةً ذرائعية سائغة لتتشبث بها وتغرس فيها مخالبها وتدس بها منقارها لإظهار دعمها للكيان الصهيوني المحتل وإشهار تعاطفها دون حياء أو رياء، واعتبار طوفان الأقصى "يجُب ما قبله" وتسقط معه سيئات إسرائيل الماضية في الحقوق الإنسانية والدماء والدمار ولا يُقام لها وزنًا بعد أن بادرت المقاومة الشعبية هذه المرة بالدفاع عن نفسها.

"لم نكن نقذفُ بنصف مليون جندي في الجزائر حبًا في عنبها أو زيتونها، وإنما من أجل منع التمدد الإسلامي.. وإنهم إن فعلوا ذلك لألقوا بالحضارة الغربية إلى متاحف التاريخ في معركة بواتييه جديدة"، أو كما قال أحد المستشرقين الفرنسيين، فهل يعلم الجميع الآن ما الخطر الذي تخشاه ألمانيا؟! يقوم الكيان المحتل اليوم بالدور الذي كانت تقوم به معظم الدول الغربية قديمًا، وهو إبقاء الدول العربية- وخصوصًا الإسلامية- تحت طائلة الضعف والحاجة والإبقاء على الوجود الغربي المتمثل- في إسرائيل- قويًا متغطرسًا ومتربعًا على عرش القيادة، ويواصل السلب والنهب مع لعب دور المُحبِّط والمُثبِّط لكل مُمكنات الانتفاض والتقدم والتطور للعالم الإسلامي، وهذا هو الجدار الوجودي الذي يجب أن يبقى قائمًا في الواقع وفي الوعي ضد التمدد الذي يهابه الغرب.

تنفس أخيرًا "نسر فايمر" الصعداء ونفّض غبار قرنٍ وربع من الزمان عن جناحيه في تصريحات المستشار الألماني التي تثعُب دمًا وكبار القادة السياسيين من الذين أطبقوا على مقولةٍ واحدةٍ وهي "أمن إسرائيل مصلحة عليا لألمانيا" وعضُّوا عليها بالمخالب والمناقير، كما أجمعوا وعضوا من قبل بالنواجذ على الترويج للمثلية وسخَّرُوا إعلامهم لبث المظلمة اليهودية التي تسببت بها نازيتهم بشكل مستمر لتذكيرهم بالنير الذي قيدتهم به الصهيونية، فهل علم الجميع الآن ماهي المصلحة العليا التي لايفسرونها في خطاباتهم؟!

لقد كان سور برلين جدارًا خرسانيًا لا زيف فيه ولا مريةً، وشاهدًا أصيلًا على الفصل العنصري الذي عانى منه الشعب الألماني وذاقوا معه الأمرين، وما لبث أن سقط بعد أن تبين ضرره الداخلي بتقزيم الدولة في بضع سنين، وندمت حكومتهم بعده ندامة الكُسعي، ولكنها عادت ونكصت على عقبها وأركست في غيها بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى للتحرر من استعباد اللوبي الخفي؛ ذلك لأنها رهنت قرارها لغيرها من هواة المغامرات السياسية، وبقي الآن الالتفات إلى الأضرار الخارجية وهي المحافظة على الحضارة والثقافة والاقتصاد والمكاسب من الخطر القادم من الشرق، ويستوجب ذلك تعظيم الدور الإسرائيلي الصهيوني واعتبار دولة فلسطين الجدار الفاصل الأخير، وقد سقط سهوًا من حسبانهم خواء ذلك الجدار، وبما أنهم قد اعتادوا الندم على قراراتهم فلا ضير من ندامة إضافية باتت تتشكل معالمها مع ثورة تمدد الوعي العالمي واتحاد المقاومات العسكرية والقانونية التي بدأت تنخر في أُسس السد الصهيوني العنصري.