التعليم المستدام (1- 2)

 

د. عبدالله بن سليمان المفرجي

 

سؤال حول التعليم في مُقدمة هواجسه ووعوده وتطوره، إلى متى سيبقى التعليم مركزًا على المعرفة، ومُقللًا من قيمة المهارة؟ متى سنُحيل التلقين إلى التقاعد؟! متى سوف نستغني في مؤسستنا التربوية عن التعليم البنكي أو التعليم المُعلب أو "تعليم المقهورين" كما أطلق عليه المفكر البرازيلي التربوي باولو فريري في كتابه "تعليم المقهورين"؟

النهوض بالتعليم العالي في بلاد لها فلسفة تعليمية واضحة، يحتاج إلى وضع الأنظمة الأكاديمية المُحكمَة، التي ترفع من كفاءة العمل الأكاديمي، وتعمل بجدية لإعادة النظر في بعض الجوانب التي تخص التعليم بما يُحقق تعزيز المهارة عند المعلم والمتعلم، فـ"التعليم زينة في الرخاء، وملاذ في الشدة" كما قال أرسطو، و"التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم" بحسب نيلسون مانديلا. لذا يجب أن نقف وقفة صادقة لمعرفة مكامن الخلل، وتصحيح المسار.

فما أجمل أن يُعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، ثم يرسم خطط الإصلاح وإعادة البناء؛ فالعقول التي تملأها شعلة التنافس لا تشيب أبدًا والأفكار الجديدة بحاجة إلى من يغرسها في العقول. يقول الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو إن "وحده الشغف، الشغف بالأمور العظيمة، يستطيع أن يسمو بالروح إلى مقامات عالية جدا"، كما إنَّ إصلاح منظومة التعليم سيُخرج أجيالًا قادرة على حل المشكلات ومواصلة التعليم ذاتيًا من المهد إلى اللحد وبعقول مفكرة وباحثة تبني كل يوم صرحًا شامخًا. ولا نبالغ إذا قلنا إن هناك "مُعلّبات تعليمية" أفقدها الزمن والتطور المتسارع صلاحيتها، فتعرضت لما يتعرّض له الغذاء المحفوظ الذي يُصبح سامًا وضارًا بالصحة.

ولا شك أنَّ إعادة صياغة منظومة التعليم العالي بجامعاته وكلياته ومعاهده لتطوير قطاع التعليم والتعلم، ينهض على استراتيجيات مُحكمَة لبناء خارطة الطريق المستقبلية لتعليم مستدام ومعزز للمهارات وهي كالتالي:

  1. موافقة وملاءمة البرامج التعليمية المطروحة وحاجات سوق العمل والتنمية الاجتماعية للبلاد والتطورات التقنية المتسارعة. فلابد من ملاءمة ومواءمة مخرجات التعليم العالي والتقني والمهني لاحتياجات سوق العمل، والواقع يفرض التوسع في التخصصات المهنية والتقنية والعمل على تطويرها بما يتفق والحاجة الفعلية والتطور المتسارع.
  2. تنويع أساليب التدريس والتقويم الفعالة بما ينسجم مع نتاجات التعلم الوجدانية أو الانفعالية أو المهارية أو النفس حركية ويتفق وأنماط المتعلمين. هذا النوع من التطور يؤدي إلى إعادة تعريف التعليم من زرع معلومات في عقول خاوية، ثم طلب استعادتها في الاختبارات، ولنقرب الصورة أقرب كالمعلم الذي يحاول إدخال المعلومات (العملة المعدنية)، في رأس تلاميذه (ماكينة البيع)، ويخرج من تلك الآلة قالباً من الحلوى (نتيجة الاختبار)، طبعا هذا النموذج منتج آخر من مخلفات العصر الصناعي، ويشبه البعض ذلك بنظام الشحن والتفريغ، المعلم يشحن المعارف والمعلومات المجردة من روحها على الطالب والطالب يحفظها ويصبها ويفرغها في ورقة الاختبار وينساها بعد ذلك. فلابد من شحذ الهمم ورصد مكافآت مجزية للمتميزين في التدريس، ونشر محاضراتهم بين الأقران ليتم الاستفادة منها، ومن طرق التدريس الحديثة المعززة بالتكنولوجيا، كما تمَّ تطبيقه في كندا في فترة من الفترات، في بعض المدارس فآتى ثمارًا يانعة.

فقد تدرب المعلمون الآخرون على أساليب التدريس الفاعلة واستفاد الطالب بأن استطاع فهم المُقرر بأيسر طريقة، فمؤسستنا التربوية اليوم تخرج حفظة وحملة معلومات ومعارف في الأعم الأغلب ولا تخرج علماء، تخرج نقلة يمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يسمون بالعقل ويربون بالتفكير.

وهُنا تَكونُ الخَطِيئة الكُبرى فكيف سوف يستطيع طلابنا في ظل هذا الوضع الراهن أن يحجزوا مكانهم في مقدمة السِّرب المحلِّق. وإلى متى هذا الوضع الذي غابت فيه بذور الإبداع وهدرت طاقات الأجيال متى نصل بالمتعلم أن يعرف ما يُريد وكيف يحقق ما يريد بنفسه أو كيف يكون اليد العليا في تحقيق ما يريد فينطلق بكل حماسٍ ممتشقًا عَقله ومتقلِّدًا قَلَمهُ يبحث ويستَزيد مما سَرده المُعلِّم. فمن المعيب أن نجد طالبًا جامعيًا يتلقى المعلومات بشكل تلقيني (الخطيب). فيا مَعاشَر المُعلِّمين ارسموا طَريق النَّجاح لطلابكم "أجيال الديجيتال" ودَعوهم يَمضون بثبات وثقة في رحلتهم التعليمية الممتعة والمشوقة بوسائلهم فإن الزمان زَمانهم فقد تجاوزوا الأمسَ بكل تَفاصيله، فقد يكون ذلك قد يكون سباحة عكس التيار ومغامرة وانتحارا لمنظومة التعليم بنظر البعض، غير أنها قد تكون وصول نحو ضفة الأمان في الوقت الذي يقود فيه التيار الآخرين نحو المجهول.

  1. تطوير المحتويات التدريسية بما ينسجم والتطورات العلمية في العالم الخارجي والواقع العملي المعيش. مع ضرورة ربط المقررات الدراسية بالحياة العمليّة وبالبحث العلمي والابتكار لا بالتلقين والحفظ الأصم للمعلومات وبعدها تصبح في طي النسيان فلا بد من خطوة جادة لردم الهوة السحيقة بين ما نتعلمه وما نعايشه. نحن بحاجة إلى التعليم المرتبط بالواقع والذي يعنى بربط المواقف التعليميّة بالمواقف الحياتيّة فالواقع اليوميّ المعاش لا يقلّ أهمّية عن المعلّم وأدواته الصفية.
  2. صقل مهارات التفكير والاتصال والنقد لدى الطلبة ليكونوا جاهزين لسوق العمل بكفاءة واقتدار. كيف يتمرن طلابنا على العمل الجماعي والخدمة الاجتماعية والقيادة والإدارة، إذا لم يُشجَّع أبناؤنا على التعليم بالاشتراك، والذي يعني "ربط الموارد الثرية في الجامعات بالمشاكل الأخلاقية والأكثر إلحاحا اجتماعيا، وبأطفالنا، بمدارسنا، بمعلمينا، بمدننا. عمَّا نحتاج له على المستوى الأكثر عمقاً يتجاوز مجرد زيادة البرامج.

إنَّنا نحتاج إلى هدف أكبر، وإلى شعور أكبر بالرسالة، وضوح أكبر لتوجه حياة الأمة، طلابنا بحاجة إلى "المهارات الناعمة"؛ مثل: مهارة التعلم الذاتي، ومهارات التفكير الإبداعي، ومهارة التواصل مع الآخرين والإقناع، ومهارات الاستذكار والنجاح الدراسي، ومهارات المحافظة على الصحة الجسدية، ومهارة البحث العلمي، ومهارات ذاتية أخرى؛ مثل: مهارة حل المشكلات، ضبط الذات، تنظيم الوقت، التعامل مع الحزن والفرح. طلابنا بحاجة لتعلم مهارات التفكير الإبداعي "التفكير خارج الصندوق"، والتفكير النقدي "التفكير العقلاني غير المُتحيِّز"، والتفكير التحليلي؛ إذ إن "الشهادة ورقة تثبت أنك متعلم، لكنها لا تثبت أنك تفهم" كما قال نيلسون مانديلا.

تعليق عبر الفيس بوك