شكسبير يُعادي الصهيونية!

 

الطليعة الشحرية

استبقت شخصية شايلوك اليهودي من مسرحية "تاجر البندقية" لويليام شكسبير الإطار الزمني بوصفه لليهود، حيث كتب ويليام شكسبير هذه المسرحية في عهد الملكة إليزابيث آخر ملوك إنجلترا من آل تيودور ما بين عامي 1596 و1598م، وفي تلك الفترة كانت مشاكل اليهود في مختلف بلدان أوروبا تتفاقم وتمّ إجلاؤهم من أغلب بلدان أوروبا؛ لما أحدثوه من مشاكل اقتصادية واجتماعية؛ الأمر عينه في بريطانيا؛ إذ تمّ تحديد أماكن خاصة وتجمعات لليهود أشبه بالمُخيمات، وأن يضعوا قبعات على رؤوسهم حمراء في حال خروجهم من أماكنهم حتى يتم تمييزهم كيهود؛ بل كانوا يدفعون وهم صاغرون لمن يقوم بحراستهم.

أحكم شكسبير رسم شخصية المُرابي اليهودي "شايلوك"، وأبرز فيها قذارة اليهود وجشعهم ومحاولتهم السيطرة المالية في البيئة التي يعيشون فيها وحقدهم ودناءتهم وخستهم في سبيل الوصول إلى مآربهم وقسوة قلوبهم التي لا تعرف الرحمة حين تلوح لهم فرصة الانتقام.

ولتذكير هذا العالم المُتصهين، فمؤلف مسرحية شكسبير إنجليزي ليس عربيًا ولا مُسلمًا، ولكنه فاق استبصاره المألوف وتنبأ عبر شخصية (شايلوك) المُرابي الجشع بصهاينة الرأس مالية الجشعة في عالمنا الحالي. فإذا اعتبرنا أن " شايلوك" هو رمزٌ للاستيطان اليهودي فسيتجلى لنا فهم الشخصية المرابية الجشعة والمقيتة وهوسهم بالاستيلاء على ممتلكات الشعب الفلسطيني وأراضيهم بشتى الطرق والوسائل الخبيثة. ولن يتورّع المرابي الجشع عن سفك الدماء والقتل واستخدام أخبث وأدنس الحيل وأساليب المكر والإغواء الملتوية للعرب والساسة والقادة والعلماء والمثقفين وأصحاب النفوذ وإغرائهم بالنساء والملذّات؛ كي يسهلَ السيطرة عليهم وسلبهم كرامتهم وأرضهم وثرواتهم والتحكم والسيطرة عليهم.

ونرى تجسُّد "شايلوك" اليهودي المُرابي في عالمنا الحالي قافزًا عبر فجوة الزمن مُلقيًا معطف الخسة ومرتديًا بذة الرأسمالية الصهيونية، يفقأ بأصبعه عين كل مُبصر، ومُكمما بكفه أفواه كل مُغرد خارج سربه، ويحجب الحياة نفسها عمّن تسول له نفسه المعارضة.

نشاهد اليوم المُرابي"شايلوك"، في "عملية كناري " Canary Mission التي تأسست عام 2015 والتي تهدف إلى تعقب وملاحقة الطلاب والمحاضرين والعاملين في الجامعات والتجمعات الطلابية في الولايات المتحدة الأمريكية ممن ينشطون في حركات ومؤسسات تناصر الشعب الفلسطيني وداعمة لمقاطعة الكيان الصهيوني المحتل. رصدت عملية كناري الآلاف من الطلاب والمحاضرين المتضامنين مع القضية الفلسطينية وأدرجت الكثير منهم في قوائم تضم معلومات مفصلة عنهم. ويتم التشهير بهؤلاء بادعاء أنهم ينشرون الكراهية ومعاداة السامية، وحسب تحقيق لصحيفة "فوردود" فإن تمويل هذه العملية يأتي من الاتحاد اليهودي (Jewish Community Federation) في سان فرانسيسكو، وصندوقه المسمى بهيلين ديلر Helen Diller، وهي كُبرى المنظّمات اليهوديّة في الولايات المتّحدة وأكثرها تأثيرًا.

تقرر "عملية كناري" من يدخل ومن يخرج من إسرائيل، فالمخابرات الإسرائيلية تستخدم موقع "عمليّة كناري" كمصدرٍ معتمدٍ لاستقاء المعلومات حول المواطنين الأميركيين والأجانب. وأنّ منع دخول الأجانب يتمّ على أساس ظهور اسمهم في هذا الموقع. كما يخضعون، قبل إعادتهم إلى بلادهم، إلى تحقيقات تتعلّق بنشاطهم السياسيّ، وتُطرح عليهم أسئلةً عن المعلومات الواردة في موقع العمليّة، هذا بالإضافة إلى المضايقات والتضيق على الطلاب والأكاديميين فمن الصعوبة الحصول على وضيفة أو الترشح للبحث العلمي لو وجد اسم المتقدم في القائمة السوداء. ناهيكم عن فصل الأكاديميين بتهمة معادتهم للسامية وآخر من تنحى كان رئيسية جامعة هارفارد الأميركية، "كلودين غاي"، وفصل أستاذ علم الاجتماع، "ديفيد ميلر"، من جامعة بريستول، وكلهم بذات التهم مُعادة السامية.

هل نسي أحفاد "شايلوك" المُرابي أن شكسبير يُعادي السامية؟  لماذا لا ترتفع المطالب بحذف شخصية "شايلوك" ومسرحية تاجر البندقية من الإرث الأدبي العالمي فهي تُعادي السامية، فالإنجليز مُعادون للسامية ولمشيئة الرب!

لا تتوقف عقلية المُرابي الخبيث عن تقيد وتكميم أفواه الأكاديميين والطلاب والعلماء والمثقفين، بل تتعداها إلى السيطرة والتحكم بالساسة والقادة والمؤثرين باستخدام الإغواء بأقذر وأحقر الأساليب والطرق وهذا ما كشفته مجموعة الوثائق المتعلقة بشبكة الملياردير الأمريكي جيفري إبستين.

شملت الوثائق أكثر من 150 اسمًا ممن كانوا على تواصل مع إبستين، من ضمنهم رؤساء وقادة وساسة ومشاهير، ومن أبرز تلك الأسماء أستاذ القانون بجامعة هارفارد سابقًا آلان ديرشوفيتز، والمتهم باغتصاب الأطفال، وهو المحامي الذي كلفته إسرائيل بتمثيلها أمام محكمة العدل الدولية في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية في غزة، وسُحب التكليف بعد الاتهامات الموجهة للمحامي مع تكليف المحامي البريطاني البروفيسور مالكوم شو.

لم يكن اختيار شو عبثيًا؛ فهناك رسالة تريد إسرائيل تمريرها من خلال اختياره أمام المحكمة، وهي أنها تُدير الحرب على غزّة بشكل يتلاءم مع القانون الدولي؛ باعتبار السمعة الدوليّة المعروفة لشخص شو في مجال القانون الدولي وقانون حقوق الإنسان الدولي، ومشاركته في العديد من المؤسسات القانونيّة خبيرًا أو مستشارًا لحل نزاعات إقليميّة، وتمثيله سابقًا في محكمة العدل الدوليّة.

من الشخصيات التي شملتها قائمة إبستين، شريكته جيسلين ماكسويل ابنة إمبراطور الإعلام روبرت ماكسويل صاحب شركة "بيرجامون بريس" والتي تمتلك مجموعة "ميرور" وتضم: صنداي ميرور، وديلي ميرور، وجزء من صحيفة الإندبندنت البريطانية، ومن المعروف أن روبرت ماكسويل تشيكي من أصول يهودية، وهو من أكبر الداعمين للمشروع الصهيوني ولحزب الليكود الذي يقوده بنيامين نتنياهو.

اشتهر ماكسويل بأنه يشتري أي صحيفة تنشر مقالات ضد إسرائيل وكان له علاقات وثيقة بإسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق وبجهاز الموساد، وله علاقات وثيقة بتجارة السلاح.  جيسلين ماكسويل شريكة، جيفري إبستين في شركاته ومُتواطئة معه في فضيحة الاتجار بالقاصرات.

يسيطر أحفاد شايلوك المرابي على ثلاثة مفاصل أساسية، فعلميًا العقول المفكرة يتم تكميمها وتقييدها بـ"عملية كناري"، والقادة والسياسيون والمؤثرون والمشاهير يتم التحكم بهم والسيطرة عليهم بمشروع جزيرة إبستين و"بيتزا جيت" وغيرهما، والسلطة الإعلامية وتوجيهها والضغط عليها عن طريق التمويل من اللوبيات الصهيونية. فهل للضعفاء من نصير؟ وهل للعدالة من صوت؟ وهل للحق من مناصر؟

لا قوة تضاهي قوة المُرابي!

ويستمر مسلسل العُهر الصهيوني المتواصل على قطاع غزة مع سقوط أكثر من 22 ألف شهيد، وتدمير شامل للبنية الأساسية، وانتهاك صريح وصارخ للمعايير الدولية باستهداف الصحفيين، والمراسلين، والأطباء، والمستشفيات، وقد وُثِّقَت كل تلك الجرائم وأكثر، في صحيفة الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا وتتألف من 84 صفحة، صيغت بدقة من قبل خبراء دوليين في مجال الإبادة الجماعية، ورفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.

الوثيقة مليئة بالأدلة الداعمة للاتهامات التي وجهتها جنوب أفريقيا لإسرائيل، وتقدم الوثيقة حقائق ساطعة لا يمكن دحضها أو التشكيك فيها. وتحدد الدعوى أن إسرائيل ارتكبت جرائم إبادة جماعية مُتعمَّدة في غزة، ومُوجَّهة ضد سكان القطاع بشكل خاص، واستشهدت على ذلك بسياسة دولة الاحتلال وأفعالها، التي عبَّرت عنها التصريحات الصادرة من أعلى المناصب السياسية في الدولة، إضافة إلى أفعال وسلوك جنودها.

قدمت الوثيقة سيلًا من الأدلة على ارتكاب إسرائيل جرائم إبادة جنائية في غزة، وقسمتها إلى 7 تصنيفات رئيسية؛ أولها تجاوز أعداد الشهداء 22 ألفًا، 70% منهم أطفال ونساء، إلى جانب المعاملة الوحشية واللاإنسانية من قبل إسرائيل بحق أعداد كبيرة من المدنيين، ومن بينهم أطفال، الذين تم اعتقالهم وعصب أعينهم وإجبارهم على خلع ملابسهم والبقاء في الطقس البارد في العراء، قبل نقلهم إلى أماكن مجهولة.

ناهيك عن التراجع المستمر عن الوعود الأمنية؛ حيث تقصف إسرائيل المناطق التي تنصح سكانها في منشورات بالهروب إليها، مع حرمانهم من الوصول إلى الغذاء والماء، وهي السياسة التي دفعت سكان غزة إلى حافة المجاعة.

ومن أهم البنود في الوثيقة المرفوعة: التصريحات العلنية من المسؤولين الإسرائيليين عن نية ارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين؛ بما في ذلك إشارات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى القصة التوراتية عن التدمير الكامل للعماليق على يد اليهود، وبيان جيورا آيلاند الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي ومستشار الحكومة، عندما قال: "لقد قطعنا إمدادات الطاقة والمياه والوقود عن القطاع، ولكن هذا ليس كافياً. من أجل جعل الحصار أكثر فعالية، علينا أن نمنع الآخرين من تقديم المساعدة لغزة، يجب أن يُقال للشعب إن أمامه خيارين: إما البقاء والجوع، وإما المغادرة".

ومع استمرار المذابح وسياسات التجويع واستهداف المدنيين على مرأى ومسمع العالم، لم تتحرك إلا جنوب أفريقيا غير آسفةٍ على العرب والمسلمين.

جنوب أفريقيا تعلم وتستشعر حجم المعاناة وجحيم الاستبداد والفصل العنصري، فقد عانت على  مدى عقود من ذات السياسية العنصرية المريضة، وكأن التاريخ يُعيد فصلًا من الممارسات العنصرية والفاشية ضد الفلسطينيين، من قبل الحركة الصهيونية المتطرفة، والمدعومة بسياسيات رأسمالية مُرابية جشعة وخبيثة يمارسها المُرابي "شايلوك". أما فرض السلطة القمعية والفاشية المغلفة بـ"الفيتو" والعولمة  والحريات عبر جزيرة إبستين القذرة والمرعبة، أو عبر عملية "كناري" لتكميم الأفواه وحجب الآراء والتحكم بالعقول، والإعلام المموَّل الذي يقود دفة الممارسات القمعية الفاشية الرأسمالية الصهيونية الممنهجة.

"شايلوك" المرابي وأحفاده بطموحهم ومشروعهم الصهيوني الغربي الداعم بإستراتيجيات عميقة ومتجذرة لإفراغ فلسطين من شعبها، ما هي سوى منهجية طويلة الأمد لإفراغ العالم العربي من شعوبهم.

لقد أُسدلت الستارة على الفصل الأخير من مسرحية "تاجر البندقية" لويليلم شكسبير، بهزيمة شايلوك وانتصار الحق، فهل كان الكاتب والشاعر الإنجليزي مُنهاضًا للصهيونية؟ وهل تُسدل الستارة في عصرنا هذا على هذه الصهيونية المتوحِّشة؟!