ماجد المرهون
يتصف البعض بشدة اعتقادهم بعقليتهم الجامدة بحيث يكون حالهم الذي ولدوا عليه ووجدوا أنفسهم فيه لن يتغير وهو القدر الذي كُتب عليهم ولا تبديل له، كالذكاء ليس بالمقدور تنميته والمهارة إلى حدٍ ثابت لا تتطور وحتى الثقافة السائدة لا يمكن لها الازدهار في ظروف محيطة يعتقد أنها تتطلب معجزة.
وقد يَصدُق هذا الاعتقاد في الرؤية المحدودة ويتحقق في الآماد الزمنية قصيرة الأجل إذ إنَّ التغيير في مكوناتٍ شديدة الرسوخ لا يظهر في وقت قصير ويتطلب فترات زمنية طويلة مع وجوب توفر فكرة التغيير للأفضل وإيقانها، ولذلك لا يشعر كثير من الناس بالتغيير لبسط فكرة استعجال النتيجة نفسها على الذهن ولكنها قابلة للتغيير على المدى البعيد بحسب حثاثة الدوافع وبالإمكان إصابة ذلك بتتبع تاريخ التطور العلمي الإنساني بين تحويل الفكرة المجردة لبلوغ الأهداف إلى واقعية مشخصة تتجلى بحصد النتائج في معزلٍ عن الكسل والحجج والأعذار كون النجاح مرتبطاً بامتلاك عقلية "الشجرة" النامية على النقيض من الفشل مع عقلية "الحَجَرة" الثابتة.
استشرق علماء الغرب مع تركة علماء المشرق الإسلامي، ولكن ماذا لو بقي مارد عقل العالم الغربي مقيدًا بنير عقلية القرون الوسطى التي تطأطئ رأسها لعقيدة "الأنتيبود" وتفرض على الناس كرهًا عدم وجود بشر في الجانب الآخر من الأرض لم تصلهم رسالة المسيح وذلك جزعًا من تقويض الأسس الراسخة لمركزية الأرض وأن من يقول بغير ذلك فهو مهرطق ينطبق عليه حد الإعدام حرقًا؟! لكُنا اليوم تقريبًا نستخدم العربة التي تجرها الخيول والحمير لقضاء مصالحنا.
وقد نجد ما يكافئ هذا المثال في مفهومنا العربي لدى البعض ممن لاتزال عقولهم المتحجرة مقيدةً في العصر الذهبي للمشرق الإسلامي قبل مئات السنين والذي بنى عليه الغرب حضارته وأننا كنا وكنا...! مع الرضوخ للكسل ونبذ العمل، والبعض الآخر من الذي ألقى مقادة عقلة كليًا إلى الاستسلام لضعفه مقابل قوة التطور والتقدم الغربي ولاطاقة له بمجابهته وإنه ليستحسن عدم الخوض في رهاناتٍ خاسرة؛ ولكن ماذا لو بقي أهل الجزائر وتونس راضخون لفكرة عدم قدرتهم على مواجهة الاحتلال الفرنسي الذي يبدو في ظاهره عملاقًا لا يدان لأحد به والوقوف في وجهه بعد أن أرهب الناس بملايين القتلى؟! وماذا لو فعل الليبيون كذلك مع الاحتلال الإيطالي والعمانيون مع الاحتلال البرتغالي؟! ولكنه سعي إنساني دؤوب نحو بصيص نور الحرية يقدم التضحيات النفيسة في نفق جشع وغطرسة وكذب المحتل لينتهي غالبًا بالنصر.
إننا نلاحظ اليوم نوعين من الناس المضادين لحركة التحرير الأهلية في الأراضي الفلسطينية، فالأول ينظر من تحت "الحجرة" ممن وجد نفسه في قدرٍ قد كُتب لا يمكنه تغييره وعليه القبول به كما هو الواقع ويغفل حقيقة أنه فُرض عليه قسرًا أو يتجاهله، والثاني متخاذل كسول لايريد العمل ولا يشجع عليه ومثبط للتطور والتقدم وعدو للنجاح بحجج قوة المحتل وذرائع ضعف إمكانيات المقاومة في مواجهة العملاق العسكري المزعوم وعاطفة موت الأبرياء وقد يكون في إرادة الخير مآل إلى سيادة القوة بالانتقاص من سيادة التوكل على القوي الذي لا تغلبه قوة وليس كل من أراد الخير أصابه إلا بتوفيق من الله.
حلت السياسة محل اللاهوت في القرون الوسطى بعد إضمحلال سُلطة رجال الكنيسة وأفرزت بدايات تبعية الشرق للغرب مع الفكر العقلاني الذي يستميت في شرح المعطيات المادية بطرق وأساليب التفسير العلمي متعدد الأوجه والمبني على التحليل الطبيعي بغية إحداث إستنتاج صلب وحتى مع المعطيات الإنسانية من التي لايمكن الوصول معها إلى تركيبة إستنتاجية ثابتة بحيث يمكن القول بضمان النتيجة، إلا في مقاربات تقديرية لما هو متوقع من خلال مقارنتها مع أحداث ماضية مشابهة.
المبدأ العقلي دائمًا يميل إلى تغليب القوي وهكذا تسايره التوقعات ويدعمه التحليل السياسي وموازين القوى، ولكن قد ينحى المنطق الإنساني إلى عكس ذلك مع أن التوقعات تسايره غالبًا في التشكيك بضمان النتيجة إلا أن الحدس أقوى بوجود إعتقاد إيماني راسخ تتفسخ معه القوة المادية ويدعم هذا الاعتقاد الثلة القليلة التي آمنت بقوة معتقدها وأعدت العدة على المدى الطويل مع العمل الدؤوب واضعة الحلم الكبير هدفًا مشروعًا لها، ولم تنفِ عن نفسها غائية توظيف الوسائل والمنافع المتاحة في سعيها الحثيث لتحقيق الهدف المنشود، كما لم يخرجها ذلك عن معتقدها الديني الذي جاء في صميم حفظ كرامة الإنسان وخدمته.
إن التنميط التغريبي غير المدرك الذي يتعايش معه الكثير من العرب المناهضين لحركات التحرير الداخلية في فلسطين قد بُني على ثقافة العقول الثابتة أو الجامدة التي تعتقد بتوارث الضعف والبقاء في نير وأغلال الاستسلام والخنوع للمحتل وداعميه وأن القدرة على إحداث تغيير في هذه المرحلة بالغ الصعوبة أو مستحيل لأن الوضع مختلف وهكذا قالت الكثير من الأمم الخالية التي انتصر فيها المظلوم صاحب الحق في نهاية المطاف وقد أجمعوا بأنَّ وضعهم مختلف بسبب اختلاف المعطيات، إلا أن النتيجة واحدة والاستنتاج غالبًا ما يكون قريبًا جدًا من التوقعات التحليلية الإنسانية وهو أيضًا نوع من التنميط لكنه غير محسوب رياضيًا أو مدروس نظريًا نظرًا لطغيان المبدأ المادي البحت في الغلبة الدائمة للقوي وإن كان ظالمًا على الضعيف وإن كان مظلومًا علمًا أن الكثير من الاستنتاجات في قدرة المقاومة الفلسطينية على إدخال عدوها في مسابقة حبس النفس الطويل تشير لها رهانات العدو الخاسرة وسقوطه في خيارات قهرية بالغة التخبط والتردد ومؤاربات مكشوفة فاضحة.
تسربت هذه الأفكار إلى الوعي العربي عبر مئات من سنينٍ ماضية واقتربت كثيرًا من يقين انتصار الغرب القوي في نهاية الأمر وهو مالم يحدث في الماضي إطلاقًا وعليه سيبقى الكيان المحتل ممثلًا لهم في العالم العربي، حتى إذا أخذ قادة الغرب على لسان رئيس دولة الاحتلال بتدشين مقولة "مابعد حماس" كنوع استباقي من محاولات بث روح الضعف والهوان في عقيدة المقاومة ومناصريها صدقوا كذبتهم وقد يصدقها البعض ولكن المؤشرات حسب المبدأ العقلي والمنطق الإنساني تُصَّدق كلها على ضرورة التفكير "لما بعد إسرائيل".