أمي يا وطني

 

علي بن سالم كفيتان

 

منذ كنت صغيرة أقوم على همساتها ... قومي المدرسة... وأنا أتجاهل هذا النداء لما فيه من التزامات جديدة على جسدي الغض تبدأ من غسل الوجه وتنظيف الأسنان وتمشيط الشعر وشده ومن ثم لبس المدرسة وحمل الشنطة الثقيلة كلها مهام لا يستطيع بنائي الصغير تحملها ومع صيحاتها المتكررة من المطبخ "قومي ولا بجي"، يعتبر هذا إنذارًا متقدمًا جدًا يجعلني أتقلب، ثم أجلس وأذهب إلى الصالة لأجلس في إحدى الزوايا وأكمل نومي جالسة، تذهب هي على عجل لتفحص الغرفة فلا تجدني وهي خارجة تقول "زين قامت".

تُكمل مهماتها وعندما تصل للصالة تجدني مكومة في ذلك الركن وعيناي مغمضتين، وهنا تمسكني من يدي لتدخلني إلى الحمام؛ لتبدأ عملية التنظيف القصري وفرش الأسنان على عجل، فطعم بقايا المعجون يظل معي طوال النهار، وفي وقت قياسي أجدني واقفة بكامل زي مدرستي وأمامي كوب حليب وموزة وبضع تمرات؛ هي الفطور اليومي كلما توفر ذلك. في الغالب اكتفي بنصف الكوب والموزة آخذها في يدي أقضم منها ما كتب الله لي والباقي يكون غذاء للحشرات أمام المنزل، وأنا في انتظار الباص.  

أبكي وأنا أردد "لا أريد الذهاب إلى المدرسة"، ترجف قدماي ويلتاع بطني أقذف حقيبتي الصغيرة عند الباب، وأقفل راجعة إلى البيت الدافئ؛ حيث أمي وأبي، وحيث تعودت على النوم متى أشاء، والاستيقاظ متى أشاء، والإفطار على مهل، وأنا على كَنَبَةِ الصالة أشاهد التلفاز، مُستمتعة بترتيب أمي لكل شيء في البيت، عندما أجوع أذهب إلى المطبخ وآخذ كفايتي، وبعدها أمارس شقاوتي اليومية مع إخوتي الصغار، نازلين إلى الحوش، طالعين إلى الصالة، ولا مانع من نبش الملابس والعبث بالمكتبة، في الوقت الذي نتلقى فيه صيحات الإنذار المتكررة من أمي بالعقاب الذي لا يتم، إلّا مرة في الأسبوع وغالبًا يكون موجعًا وصارمًا، إلا أنَّ هذا لا يمنعنا من العودة والاحتماء بسلطة أبي.

في أوقات المساء، تصيح أمي في وجهي "مالك؟" أقول لها بكلمات مبعثرة ودموعي تنزل بغزارة وتعابير وجهي تتغير "ما أريد أروح المدرسة"، تحزم أمتعتها على عجل وتلبس عباءة الطوارئ المعلقة في الصالة، وتأخذني وهي تتمتم بكلمات لا أسمعها جيدا لتركب معي الباص مع بقية الملتحقين بالصف الأول في الحياة. أمي تجلس إلى جانبي شامخة، أُحس ببقية دفء العائلة الذي أقاتل من أجل بقائه معي. أمي تحمل شنطتي وأنا أتبعها، تصيح فيها المعلمة "ما نريد أمهات"، تتجاهلها وتسلمني إلى الطابور الصباحي. أمي تقف في نهاية الرواق كقلعتي الأخيرة التي أحتمي بها من واقعي الجديد، وعيناي لا تكاد تفارقانها، تتبعني إلى الصف وتفترش الممر في الخارج، متحملةً تنمر المدرسات وسخطهن المستمر لتمنحني جرعة الأمان التي احتاجها. كم أنتِ عظيمة يا أمي!        

كبرنا وتخطينا الزمن معًا أنا وأمي؛ ففي المراحل اللاحقة في الإعدادية والثانوية، تحضر بانتظام اجتماعات مجالس الأمهات، تنفرد مع كل مدرسة وتناقش إنجازاتي وعثراتي، إنها شريكة حتى في مشاريعي المدرسية من الحياكة وحتى الرسم وكتابة اللوحات، فكم وجدتها مع ساعات الفجر الأولى تفترش الصالة؛ وهي تكتب لوحتي التي سلمتها إياها قبل النوم. أمي خطها جميل وذوقها رفيع في تنسيق الأعمال الفنية؛ لذلك تساندنا دون كلل أو ملل. أمي تدفعنا بقوة لإكمال التعليم، رسمت لنا صورة وردية ومستقبلًا باهرًا، وجاهدت بصحتها وكل ما تملك؛ لنبلغ ذلك المرام، لقد نجحت بامتياز مع طلائع إخواني الذين تخطوا هذا الحاجز، وأنا اليوم أقف على عتبة المرحلة، استحضر كل حركاتها وسكناتها ونصحها وعطفها وتسبيحاتها على سجادتها العتيقة معي طوال مسيرتي، منذ كنت طفلة تبكي لا تريد الذهاب للمدرسة، إلى تسليمها دعوة حضور حفل تخرجي.

ستظل عيني تبحث عن عينيها العظيمتين بين الجموع في الحفل، سأبلغ المُنى عندما تلوِّح لي بيدها الشامخة كشموخ المآذن من بعيد، سأتمالك نفسي وألجم مشاعري وسأتقدم الدفعة إلى المنصة لقطف ثمرة جهادي وجهادها، سأهديها كل الشهادات والإفادات وكل كلمات الثناء التي عبر عنها أساتذتي، وكل مشاركاتي الخارجية والداخلية في المؤتمرات وورش العمل التي حضرتها. أمي كانت معي وكل إنجازاتي فصل صغير في خزانتها العامرة بالعطاء.

همِّي اليوم هو هم كل الذين يقفون على أعتاب التخرج من الجامعات: هل سيجد لي وطني مكانًا بعد رحلة الكفاح هذه لأعيد له بعض الذي أعطاني؟ لا أخفيكم، يسود جو من فقدان الأمل في الأفق؛ فالمتكدسون من الأعوام الماضية ما زلوا يبحثون عن أمل باتت تسرقه السنين بصمت..

حفظ الله أمي، وحفظ الله بلدي العظيم.