الحقوق بين إدعائها ومفارقات الممارسة

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

تواطأ العالم، وبالأخص ما يُسمى بالعالم الحُر، وبعد الحرب العالمية الثانية التي انتُهِكَت فيها وبعدها، حقوق كثيرة للإنسان والبيئة معًا، عن طريق سياسة الأرض المحروقة، واستخدام كل أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية الفتّاكة، وإلقاء أطنان من القنابل المُدمِّرة على مناطق من هذا العالم، واستمرت هذه الانتهاكات والقتل المريع حتى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وكان من عواقبها تكبيل الدول المهزومة باتفاقيات جائرة جعلتها أشبه ما تكون بدمية أو لعبة أو طفل صغير غير مميز واقع تحت الوصاية أو الكفالة، وكان الوصي أو الوكيل جائرا غير مؤتمن تجاه وصيه أو مُوَكِلِه، يمتص حقوقه ويأكل مقدراته ويستولي على مخصصاته، ويهب أرض غيره لمن يشاء من أمم الأرض، فمن لا يملك يهب الأرض لمن لا يستحق في انتهاك واضح لحق الإنسان من طفل أو امرأة أو شيخ طاعن في السن.

تأسست الأمم المتحدة جامعة دول العالم، تتوجه إليها كل دولة اعترف العالم باستقلالها، ولعلها أول خطوة تقوم بها الدول الوليدة أو المُستقلة لتكون تحت مظلة هذه المؤسسة، وتحتمي بحماها فلا عدوان عليها لأنَّ مواثيق هذه المؤسسة تشدد في ذلك.

شددت هذه المنظمة على حق الشعوب في الاستقلال كما تواطأ العالم من خلال ما سَنَّه من قوانين وتشريعات ونُظُم على حقوق الطفل في حياة كريمة حتى بلغ بها منع الأبوين من نَهْره أو تأديبه ولو لمجرد صيانته من رفاق السوء والانحراف القيمي بدعوى رعاية الطفولة ومراعاة نفسياته وما يعتريه من أحاسيس!

كما تم التواطؤ على حقوق المرأة من حيث حريات التصرف واختيار المناسب لها حسب رؤيتها، ولو كان ذلك بالتمرد على القيم والمُثُل والأعراف والعادات والتقاليد وما أوصى به الدين، وبلغ من سطوة هذا الجانب الذي يفرضه الغرب على العالم الثالث ومنه العالم الإسلامي أن تصدر الدوائر الغربية تقاريرها السنوية عن أوضاع المرأة في هذا العالم، وما حصلت عليه من مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية ومع ذلك لم نر من الدول الغربية التي سيطرت أو احتلت عددا من الدول اهتماما حقيقيا بالمرأة ولعل أكثر ما منحته هذه الدول من حقوق لتلك المرأة في تلك البلدان التي غزتها أو احتلتها هو مقدار ما عليها من مساحق تجميلية، ومقدار ما شهدته تلك البلاد من افتتاح صالونات التجميل.

ساهم خبراء ومستشارو وحقوقيو العالم- خاصة الغربي- في صياغة ما يتعلق بحقوق الإنسان كحق الحياة الكريمة والعيش اللائق به وتوفير سبل الراحة، بل بلغ به متابعة أحوال السجناء من حيث المأكل والمشرب والملبس والمعاملة اللائقة بهم، ثم تطور الأمر أن بلغ مطالبة بعض دول العالم المتحضر بمنع عقوبة الإعدام ولو كان المجرم مستحقاً لها مراعاة لحق الحياة مهما كان الجرم الذي ارتكبه!

لا شك أن هذه النُظُم في مجملها وكثير من موادها المسطورة على الوثائق والأوراق حسنة إلا ما خالف قواعد الإسلام وقيم المجتمعات وأخلاقيات الشعوب والأمم.

عموما الأزمة الروسية الأوكرانية كشفت حقيقة الغرب الانتقائية في تطبيق النظم والقوانين، ودوره في تحجيم تفعيل تلك القوانين ضد حلفائه من الدول ومنها إسرائيل، فقامت دول غربية بغلق وسائل الإعلام المؤيدة لروسيا أو حتى المحايدة، كما تم طرد صحافيين من أعمالهم أو إجبارهم على تقديم استقالاتهم.

والرياضة التي قيل إنه لا يصح خلط السياسة معها، سمح الغرب برفرفة علم أوكرانيا في الملاعب وارتداء العلم الأوكراني بينما تم منع العلم الروسي أو ترديد الأغاني المؤيدة لروسيا!!

انحازت أمريكا ودول الغرب جميعًا مع أوكرانيا فقدمت لها الدعم الإعلامي والعسكري والمادي على أساس أن هذه الدولة هي دولة مستقلة معترف بها أمميا وهي كذلك، وضغطت هذه الدول على دول العالم الثالث من أجل الانحياز إلى موقفها، وأصرت على أن موقفها نابع من تأييد حق أكرانيا الدولة المستقلة في الدفاع عن نفسها ضد التدخل الروسي وفي المقابل فإن أمريكا ودول الاتحاد الأوربي تقف مع إسرائيل المحتلة لفلسطين إعلاميا وماديا وعسكريا، ولم تسع جديا لنيل الفلسطينيين استقلالهم، وحتى حق تقرير الفلسطينيين مصيرهم عبر إنشاء دولة للفلسطينيين في أراضي فلسطين التاريخية المحتلة عام 1967، حتى ذلك الحق لم تسع الإدارة الأمريكية على تعاقب رؤوسائها الجمهوريين والديمقراطيين على تنفيذ ذلك عبر إلزام إسرائيل بتلك القرارات الأممية.

لم يلتفت العالم الحر المتشدق بحقوق الإنسان إلى الملايين من الفلسطينيين المُهَجَّرين في مخيمات لبنان وسوريا والموجودين في الأردن أو في دول أمريكا اللاتينية أو الغربية والمتلهفين إلى العودة إلى أرضهم فلسطين، وقد أخرجوا منها منذ عام النكبة 1948، ثم عام النكسة 1967، وهذا التشريد كان للمملكة المتحدة الرصيد الأكبر فيه والسبب المباشر المؤدي إليه.

الحرب الإسرائيلية على غزة والتي كادت أن تنهي شهرها الثالث، وتشن إسرائيل أبشع أنواع الحروب على قطاع لم تتجاوز مساحته 360 كيلومترًا، ويضم أكثر من مليونين ونصف المليون من السكان، وتمطرهم بحمم القنابل الفسفورية المحرمة دولياً، وتقصفهم بمختلف أنواع الأسلحة وبطائرات الأباتشي الغربية والأمريكية.

وقفت أمريكا حتى الساعة مع إسرائيل واستخدمت حق النقض في مجلس الأمن لإعاقة الدعوة لوقف إطلاق النار، ويؤكد المسؤولون الأمريكيون على رفض وقف إطلاق النَّار رغم أن عدد الشهداء بلغ أكثر من عشرين ألف قتيل، يكاد يبلغ نصفهم من الأطفال ؟! والنساء؟! وحاصرت إسرائيل المستشفيات التابعة لمنظمات أممية أي لم يكن العلم الأزرق حاميًا لها ولا ملاذًا، ومنعت عن السكان أبسط الحقوق من الماء والغذاء والدواء، وأكد مراقبون محايدون أن إسرائيل تتعمد قتل أكبر عدد ممكن من السكان انتقامًا ليوم السابع من أكتوبر الذي هز هيبتها، وكذلك رغبة منها في حمل الفلسطينيين على الهجرة خارج فلسطين بدليل أنها قصفت كل ثابت ومتحرك، ولم يكد يبق بيت قائم على أصوله، وقد ألقت ما يعادل ثلاث قنابل أي ما يفوق ما ألقته أمريكا من قنبلتين نوويتين على هيروشيما ونجزاكي اليابانية.

إن هذه الانتهاكات تصل إلى حد تصنيفها جرائم حرب أو حرب إبادة جماعية أو هي حرب ضد الإنسانية لما فيها من انتهاك لحقوق الطفل والمرأة والإنسان والبيئة ومع ذلك فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية وسائر دول الغرب تقف مع إسرائيل متجاهلة القانون الدولي والقانون الإنساني!!

إن للحرب قواعد وضوابط وهي من الحقوق التي يتحدث عنها الغربيون ومع ذلك فإنهم أول من ينتهكها إذا ما غزوا شعبا أو احتلوا بلدا كما فعلوا في أفغانستان والعراق وفيتنام وغيرها من الأقطار.

إسرائيل ربيبة المملكة المتحدة وابنة الولايات المتحدة المدللة، ترتكب أبشع الجرائم التي تمس الطفل ومأساة الأطفال الرضع والخداج في مستشفيات غزة وموت كثير منهم شاهدها العالم الحر قبل غيره ورغم ذلك لم يحرك ساكنا والمرأة قُتلت وشُردت وهُجِّرت ولم تجد مأوى للسكنى ولا مستشفى للعلاج أو الحصول على الدواء ورغم ذلك صمت العالم المتحضر المتشدق بحقوق الإنسان والإنسان عموما في فلسطين لم يجد الدار والكهرباء وحُرم من وسائل الاتصال مع الآخر والعالم المتمدن يرى ويسمع إلا أن لغة حقوق الإنسان التي كان من قبل يرقع من وتيرتها ويلوح بها ضد الدول التي يصنفها نامية ويهدد بالعقوبات ضد الدول الإسلامية لم نجده اليوم في فلسطين يلقي لها بالًا؛ لأن إسرائيل تمارسها، والغرب من ورائها مؤيدٌ وناصرٌ وداعمٌ لها بمختلف أنواع الأسلحة، ولعله لو لم تعلم الدول الأوربية التي تمتلك حق النقض بأن أمريكا ستستخدم حق النقض ضد أي قرار يدعو لوقف الحرب لتسابقت هذه الدول لاستخدامه.

يبقى طرح سؤال مفاده: هل يُمكن هذه السنة والسنوات المقبلة أن تُصدِر الولايات المتحدة ودول غربية تقارير عن الدول التي تنتهك حقوق الإنسان حسب تصنيف الدول الغربية؟ وهل يمكن لسفارات وسفراء هذه الدول الاجتماع بممثلي الدول في العالم الإسلامي لإبلاغها عن عدم رضا دولهم فيما يتعلق بحقوق الطفل والمرأة والإنسان وحقوق السجناء؟ وهل يمكنهم الحديث عن ضرورة تطوير المنظومة الحقوقية للناشئة والمرأة؟!