صبرًا أهل غزة فإن موعدكم الجنة

 

حمد الحضرمي **

** محامٍ ومستشار قانوني

 

الصبرُ مقامٌ من أرفع مقامات الدين، وخُلقٌ من أعظم أخلاق المؤمنين، ومنزلةٌ من أجل منازل الصالحين، وشعبةٌ من أبرز شعب الإيمان، وعروةٌ من أوثق عُرى الإسلام، وفي الدنيا لا تتحقق الآمال، ولا تنجح المقاصد، ولا ينتصر الحق، ولا يؤتي عمل ثماره إلّا بالصبر، فمن صبر ظفر، ومن عدم الصبر لم يظفر في حياته، وبالإيمان الحقيقي والصبر صمد رجال ونساء غزة طوال شهرين؛ فلم يستطع الكيان الصهيوني والدول الداعمة له من السيطرة على بقعة صغيرة هي قطاع غزة، الذي حاصره الصهاينة من كل الجهات وقطعوا عن أهله الماء والغذاء والدواء والكهرباء، وقتلوا الآلاف من الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، وهدموا ودمروا المنازل والمستشفيات والمخابز ودور العبادة والطرق والمدارس ودور الإيواء، ولم يسمحوا بدخول المساعدات، وجعلوا من قطاع غزة مكان غير صالح للحياة.

ورغم كل ما فعله الصهاينة في قطاع غزة، نجد صمود وثبات المقاومة ورجال ونساء غزة ليس له مثيل، ولهذا الصمود دلالات واضحة تثبت بأن المقاومة قد أعدت عدتها بشكل كبير لمعركة شرسة طويلة مع الصهاينة، وأعدت لها كل مقومات النجاح في مواجهة العدو والنصر من جميع النواحي العسكرية واللوجستية والإعلامية والنفسية، وزرعوا الثقة بأهل غزة، فتمسكوا بأرضهم ووثقوا بشجاعة وبسالة مقاومتهم. والحمد لله بقوة صبر وإيمان أهل غزة ومقاومتهم الباسلة سيتحقق النصر على الأعداء، وقد رتب الحق سبحانه خيرات الدنيا والآخرة على فضيلة الصبر. فالصبر تذكرتك لدخول الجنة ونجاتك من النار، وعدتك للفوز في معركة الدفاع عن الأرض والعرض والمقدسات، ولا تنهض دنيا إلا بالصبر؛ فالطريق إلى العُلا والمجد محفوف بالصعاب، ولا سبيل إلى اجتيازها إلا بالصبر، ولا يقدر عليها إلا الصابرون، ورجال المقاومة وأهل غزة كانوا بحق أبطال في قوة الإيمان والصبر وبمشيئة الله سيتحقق النصر المبين على الصهاينة المعتدين.

وإن من حسن التوفيق وأمارات السعادة الصبر على المُلمات وعند النوازل، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (آل عمران: 200) فنزل الكتاب بتأكيد الصبر فيما أمر به وندب إليه، وجعله من عزائم التقوى فيما افترضه وحث عليه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصبر ستر من الكروب وعون على الخطوب" وقيل في منثور الحكم: "من أحب البقاء فليعد للمصائب قلبًا صبورًا"، وعندما يتحقق الصبر يكون الجزاء من الله بغير حساب: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر: 10). والصبر يعتمد على حقيقتين: الأولى تتعلق بطبيعة الحياة الدنيا، فإن الله جعلها دار تمحيص وامتحان، والفترة التي يقضيها المرء بها فترة تجارب متصلة الحلقات يخرج من امتحان ليدخل في امتحان آخر.

وما دامت الحياة امتحانًا فلنكرس جهودنا للنجاح فيه بالإيمان والصبر لنفوز بخير الدنيا والآخرة. وأما الحقيقة الأخرى فتتعلق بالإيمان الذي لابد أن تخضع صلته للابتلاء الذي يمحصها، فإما كشف عن طيبها وإما كشف عن زيفها. وقد صبر الأنبياء والصالحين وضربوا أروع المواقف في الصبر، كسيدنا أيوب الذي صبر على مرضه وبلواه فكان آية في الصبر والحياء والأدب مع الله سبحانه؛ فقال الله كما جاء في القرآن الكريم: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (الأنبياء: 83). وكذلك صبر سيدنا إبراهيم خليل الله عليه السلام الذي ابتلى بالإلقاء في النار والهجرة من الوطن، وبذبح ولده، وثبت في كل هذا وصبر، فكانت عاقبة أمره نصرًا وتكريمًا له حتى يوم الدين. ولولا صبر سيدنا يوسف عليه السلام لما بلغ ملك مصر، وكان صبر سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً فاق الجميع لكثر الابتلاءات التي تعرض لها طوال حياته، ونجده مع كل هذه الابتلاءات صابرًا ويقول: "لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك".

وما يحدُث الآن على أرض المعركة على أرض غزة من من أحداث ووقائع تكشف بالدليل القاطع حجم الإيمان والصبر والثبات والصمود من المقاومة الباسلة وأهل غزة الأبطال من الرجال والنساء، وهذا خير مثال على الرضا بما كتبه الله عليهم، وبإيمانهم الصادق وصبرهم الكبير سيتحقق لهم التمكين والنصر والغلبة بإرادة الله وقوته، فقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم بداية الإسلام، عندما بذلت قريش كل ما في وسعها من قوة وحيلة في إطفاء أنوار الدعوة المحمدية، وباءت بخيبة مريرة حولت ذلك إلى نقمة على المستضعفين من المؤمنين كبلال وعمار ووالده ياسر وأمه سمية، وصهيب الرومي وخباب ابن الأرت، ومن النساء زنيرة والنهدية ولبيبة وأم عبيس.

وقد فعل الكفار بالمؤمنين كل أنواع العذاب، وعندما مر النبي صلى الله عليه وسلم على عمار وأمه سمية ووالده ياسر وهم يُعذبون قال لهم: "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" فمات ياسر تحت العذاب ومات سمية بطعنة من حربة أبي جهل في قلبها فكانت أول شهيدة في الإسلام.

وما أشبه اليوم بالبارحة؛ فالمؤمنون تعرضوا في بداية الإسلام إلى القهر والتعذيب والإهانة والتهجير، ولكنهم صبروا حتى تحقق لهم النصر والتمكين، واليوم يحدث لأهل غزة ما حدث للمؤمنين بداية الإسلام وهم بقوة إيمانهم وصبرهم صامدين ثابتين وسيكون النصر والتمكين بمشيئة الله وقدرته حليفهم، فصبرًا أهل غزة فإن موعدكم الجنة.