المروءة تعني الإنسانية وكمال الرجولة

 

حمد الحضرمي **

 

المروءة هي التجسيد الحقيقي لمعاني الإنسانية وكمال الرجولة، وهي حلية النفوس وزينة الهمم، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم؛ فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته". وقال بعض البلغاء: "من شرائط المروءة أن يتعفف عن الحرام، ويتصلف عن الآثام، وينصف في الحكم، ويكف عن الظلم، ولا يطمع فيما لا يستحق، ولا يستطيل على من لا يسترق، ولا يعين قويًا على ضعيف، ولا يؤثر دنيًا على شريف، ولا يُسِر ما يعقبه الوزر والإثم، ولا يفعل ما يقبح الذكر والاسم".

وقال الحصين بن المنذر الرقاشي:

إن المروءة ليس يدركها امرؤ

ورث المكارم عن أبٍ فأضاعها

أمرته نفس بالدناءة والخنا

ونهته عن سبل العلا فأطاعها

فإذا أصاب من المكارم خلة

يبني الكريم بها المكارم باعها

واعلموا يا الإخوة والأخوات القراء أن حقوق المروءة أكثر من أن تحصى، وأخفى من أن تظهر؛ لأن منها ما يقوم في الوهم حسًا، ومنها ما يقتضيه شاهد الحال حدسًا، ومنها ما يظهر بالفعل ويخفى بالتغافل، وسوف أذكر لكم الأشهر من قواعد المروءة وأصولها، والأظهر من شروطها وحقوقها، وهو ينقسم قسمين:

الأول: شروط المروءة في نفسه؛ فيكون بثلاثة أمور؛ هي: العفة، والنزاهة، والصيانة، فأما العفة فنوعان: أحدهما: العفة عن المحارم، والثاني: العفة عن المآثم، فأما العفة عن المحارم فنوعان: ضبط الفرج عن الحرام، وكف اللسان عن الأعراض، فأما ضبط الفرج عن الحرام؛ فلأنه مع وعيد الشرع، وزاجر العقل معرة فاضحة، وهتكة واضحة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من وقي شر ذبذبه ولقلقه وقبقبه فقد وقي " ومعنى ذبذبه: الفرج، ولقلقه: اللسان، وقبقبه: البطن، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحب العفاف إلى الله عفاف الفرج والبطن".

وقال بعض الحكماء: "من أحب المكارم اجتنب المحارم"، وقيل: "عار الفضيحة يكدر لذتها". والداعي إلى ذلك شيئان: أحدهما: إرسال الطرف، والثاني: اتباع الشهوة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجه: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن الأولى لك والثانية عليك"؛ فالعيون مصائد الشيطان، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأما الشهوة فهي خادعة العقول، وغادرة الألباب، ومحسنة القبائح، ومسولة الفضائح، وليس عطب إلا وهي له سبب، وعليه ألب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه وجبت له الجنة وحفظ من الشيطان: من ملك نفسه حين يرغب، وحين يرهب، وحين يشتهي، وحين يغضب". وقهر الشهوة عن هذه الأحوال يكون بثلاثة أمور هي: غض الطرف عن إثارتها، وترغيبها في الحلال عوضًا، وإشعار النفس تقوى الله في أوامره واتقاءه في زواجره. وقد ثبت بأن آخر ما نزل من التوارة: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وأن آخر ما نزل من الإنجيل: "شر الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئًا"، وآخر ما نزل من الزبور: "من يزرع خيرًا حصد زرعهُ غبطة"، وقال ابن مسعود رضى الله عنه أن آخر ما نزل من القرآن: "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (البقرة: 281).

فإذا أشعر الإنسان نفسه ما وصفت، انقادت إلى الكف، وأذعنت بالاتقاء، فسلم دينه وظهرت مروءته، وأما كف اللسان عن الأعراض؛ فلأنه ملاذ السفهاء، وانتقام أهل الغوغاء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم حرام عليكم" فجمع بين الدم والعرض لما فيه من إيعاز الصدور، وإبداء الشرور، وإظهار البذاء، واكتساب الأعداء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شر الناس من أكرمه الناس اتقاء لسانه ". وقال بعض الحكماء: " إنما هلك الناس بفضول الكلام وفضول المال". ويكون القدح في الأعراض من الكلام نوعان: أحدهما: ما قدح في عرض صاحبه ولم يتجاوز إلى غيره، وذلك شيئان: الكذب وفحش القول، والثاني: ما تجاوزه إلى غيره، وذلك أربعة أشياء هي: الغيبة  والنميمة، والسعاية، والسب بقذف أو شتم.

وأما العفة عن المآثم فهي نوعان: أحدهما: الكف عن المجاهرة بالظلم، والثاني: زجر النفس عن الإسرار بخيانة.

فأما المجاهرة بالظلم فإنها عُتو مهلك، وطغيان متلف، وهو يؤول إن استمر إلى فتنة أو جلاء، فأما الفتنة في الأغلب فتحيط بصاحبها، وتنعكس عن البادئ بها، فلا تنكشف إلا وهو بها مصروع كما قال الله تعالى: "وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ" (فاطر: 43) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الفتنة نائمة، فمن أيقظها صار طعامًا لها". وأما الجلاء فقد يكون من قوة الظالم وتطاول مدته، فيصير ظلمه مع المكنة جلاء وفناء، كالنار إذا وقعت في يابس الشجر فلا تبقي معها شيئًا حتى إذا أفنت ما وجدت اضمحلت وخمدت، فكذا حال الظالم مهلك ثم هالك، وقيل في منثور الحكم: "ويل للظالم من يوم المظالم" وصدق قول الشاعر:

وما من يدٍ إلا يد الله فوقها

ولا ظالم إلا سيبلى بظالم

أما الاستمرار بالخيانة فإنه ضِعَةٌ؛ لأنه بذل الخيانة معين، ولقلة الثقة به مستكين، وقد قبل في منثور الحكم : " من يخن يهن " وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنمًا والصدقة مغرمًا" وقال بعض الحكماء: "من التمس أربعًا بأربع؛ التمس ما لا يكون: من التمس الجزاء بالرياء التمس ما لا يكون، ومن التمس مودة الناس بالغلظة التمس ما لا يكون، ومن التمس وفاء الإخوان بغير وفاء التمس ما لا يكون، ومن التمس العلم براحة الجسد التمس ما لا يكون".

والداعي إلى الخيانة شيئان: المهانة وقلة الأمانة، فإذا حسمهما عن نفسه بما وصفت؛ ظهرت مروءته، فهذا شرط قد استوفينا فيه اقسام العفة، وأما النزاهة فنوعان؛ أحدهما: النزاهة عن المطامع الدنية، والثاني: النزاهة عن مواقف الريبة.

فأما المطامع الدنية؛ فلأن الطمع ذل، والدناءة لؤم، وهما أدفع شيء للمروءة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من طمع يهدي إلى طبع" وقال أحد الشعراء:

لا تخضعن لمخلوق على طمعٍ

فإن ذلك نقص منك في الدينِ

واسترزق الله مما في خزائنه

فإنما هو بين الكاف والنونِ

والباعث على ذلك شيئان؛ هما: الشره وقلة الأنفة، فلا يقنع بما أوتي وإن كان كثيرًا؛ لأجل شرهه، ولا يستنكف مما منع وإن كان حقيرًا؛ لقلة أنفته، وهذه حال من لا يرى لنفسه قدرًا، ويرى المال أعظم خطرًا، فيرى بذل أهون الأمرين لأجلهما مغنمًا، وليس لمن كان المال عنده أجل ونفسه عليه أقل إصغاء لتأنيب، ولا قبول لتأديب. وحسم هذه المطامع شيئان: اليأس والقناعة، وقد روى عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم إبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن الله عز وجل لا يدرك ما عنده إلا بطاعته".

أما مواقف الريبة فهي: التردد بين منزلتي حمد وذم، والوقوف بين حالتي سلامة وسقم، فتتوجه إليه لائمة المتوهمين، ويناله ذلة المريبين، وكفى بصاحبها موقفًا إن صح افتضح، وإن يصح امتهن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". والدعي إلى هذه الحال شيئان: الاسترسال، وحسن الظن، والمانع منهما شيئان: الحياء والحذر، وربما انتفت الريبة بحسن الثقة، وارتفعت التهمة بطول الخبرة.

أما ثالث شروط المروءة فهو الصيانة: وهي نوعان: أحدهما: صيانة النفس بالتماس كفايتها وتقدير مادتها، والثاني: صيانة النفس عن تحمل المنن من الناس والاسترسال في الاستعانة. وأما التماس الكفاية وتقدير المادة؛ فلأن المحتاج إلى الناس كل مهتضم وذليل مستثقل، وقد قالت العرب في أمثالها: "كلب جوال خير من أسد رابض". وقال أحد الحكماء لابنه: "يا بني لا تكن على أحد كلا، فإنك تزداد ذلًا، واضرب في الأرض عودًا وبدءًا، ولا تأسف لمال قد ذهب، ولا تعجز عن الطلب لوصبٍ ولا نصب". وقد كان ذوو الهمم العلية والنفوس الأبية يرون ما وصل إلى الإنسان كسبًا أفضل مما وصل إليه إرثًا.

وأما الندب: فهو ما فضل عن الكفاية، وزاد على قدر الحاجة، فإن الأمر فيه معتبر بحال طالبه، فإن كان ممن تقاعد على مراتب الرؤساء، وتقاصر عن مطاولة النظراء، وانقبض عن منافسة الأكفاء، فحسبه ما كفاه، فليس في الزيادة إلا شره، ولا في الفضول إلا نهم، وكلاهما مذموم. وأن حقوق المروءة وشروط الكرم في الأهل والإخوان والجيران، تحمل أثقالهم، وإسعافهم في نوائبهم، ولا فسحة لذي مروءة مع ظهور المكنة أن يكلهم إلى غيره، أو يلجئهم إلى سؤاله، وليكن سائل كرم نفسه عنهم، فإنهم عيال كرمه وأضياف مروءته.

وأخيرًا.. من شروط المروءة المياسرة وهي نوعان: أحدهما: العفو عن الهفوات، والثاني: المسامحة في الحقوق، فأما العفو عن الهفوات؛ فلأنه لا مبرأ من سهو وزلل، ولا سليم من نقص أو خلل، ومن رام سليمًا من هفوة، والتمس بريئًا من نبوة، فقد تعدى على الدهر بشططه، وخادع نفسه بغلطه، وكان من وجود بغيته بعيدًا، وصار باقتراحه فردًا وحيدًا، وقد قال الحكماء: "لا صديق لمن أراد صديقًا لا عيب فيه". وأما المسامحة في الحقوق، فلأن الاستيفاء موحش، والاستقصاء منفر، ومن أراد كل حقه من النفوس المستصعبة بشح أو طمع؛ لم يصل إليه إلا بالمنافرة والمشاقة، ولم يقدر عليه إلا بالمخاشنة والمشاحنة؛ لما استقر في الطباع من مقت من شاقها ونافرها، وبغض من شاحها ونازعها، كما استقر حب من ياسرها وسامحها، فكان أليق لأمور المروءة استلطاف النفوس بالمياسرة والمسامحة، وتألفها بالمقاربة والمساهلة، وقال بعض الحكماء: "من عاشر إخوانه بالمسامحة دامت له موداتهم".

والمسامحة نوعات في عقود وحقوق، فأما العقود فهو: أن يكون فيها سهل المناجرة، قليل المحاجرة، مأمون الغيبة، بعيدًا من المكر والخديعة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أجملوا في طلب الدنيا، فإن كلًا ميسر لما كتبه له منها". وأما الحقوق فتتنوع المسامحة فيها نوعين: أحدهما: في الأحوال، والثاني: في الأموال، فأما المسامحة في الأحوال فهو: إطراح المنازعة في الرتب، وترك المنافسة في التقدم، فإن مشاحة النفوس فيها أعظم، والعناد عليها أكثر، فإن سامح فيها ولم ينافس؛ كان مع أخذه بأفضل الأخلاق، واستعماله لأحسن الآداب أوقع في النفوس مع إفضاله برغائب الأموال. أما المسامحة في الأموال فتتنوع ثلاثة أنواع: مسامحة إسقاط لعدم، ومسامحة تخفيف لعجز، ومسامحة إنكار لعسرة، وهي مع اختلاف أسبابها مأثور وتآلف مشكور، وإذا كان الكريم قد يجود بما تحويه يده، وينفذ فيه تصرفه، كان أولى أن يجود بما خرج عن يده فطاب نفسًا بفراقه، وقد تصل المسامحة في الحقوق إلى من لا يقبل البر، ويأبى الصلة، فيكون أحسن موقعًا وأزكى محلًا.

وتبقى المروءة هي الإنسانية في أصدق معانيها ومواقفها، وهي كمال الرجولية، وهي آداب نفسانية، تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسنِ الأخلاق وجميل العادات، والمروءة كل شيء بحسبه، فمروءة اللسان: حلاوته وطيبه ولينه، ومروءة الخُلُقِ: سعته وبسطه للحبيب والبغيض، ومروءة المال: الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلًا وعرفًا وشرعًا، ومروءة الجاهِ: بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان: تعجيله وتيسيره. وللمروءة ثلاث درجات: الأولى: مروءة المرء مع نفسه، وهي أن يحملها على فعل كل خير، والثانية: مروءة المرء مع الخلْق، بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء، والثالثة: المروءة مع الحق سبحانه، ويكون ذلك بالاستحياء من نظره إليك، واطلاعه عليك في كل لحظة ونفسٍ، فكن دائمًا مع الله، وأنت في قمة المروءة، وذي قلب سليم.

** محامٍ ومستشار قانوني