المادة 99 النائمة

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

تتبدلُ المواقف أحيانًا بتغير الظروف والمصالح بين إيجابية القبول أو سلبية الرفض يسبقهما مساومة لإثبات مغنم أو مجادلة لنفي مغرم تحت مبدأ التفاهم أو شِعار تقريب وجهات النظر كما يُقال، ولن تظهر مثل هذه التغيرات على الصعيد العام إذا كانت تمُس المستوى الفردي مسًا مباشرًا أو منفعة بين طرفين يغلِّب فيها أحدهما مصلحته الشخصية على الآخر في معظم الأحيان بغرض كسب شرعيته الطبيعة البشرية للبقاء والتنعم بشعور الأمان.

وتتدخل هنا القوانين المدنية لحماية الحقوق درءًا لبغي القوي وسيادة شريعة الغاب؛ حيث سلاح الفتك بالمخالب والأنياب وعلو الصوت وفرد الجسد والشعر والريش ونصب الكمائن هي أغراض أخرى للبقاء، لكن تحكمها الغرائز بقدر الحاجة لسد غائلة الجوع وليس الزيادة المترفة لإرضاء الشهوات التي لاتشبع؛ ويجدر سريان نفس المبدأ الفردي في تبديل الموقف على الصعيد السياسي في العلاقات الدولية؛ إذ يمثل رأي الأمة فيه فردٌ أو أفراد جلهم من عامة الشعب ويفترض أنهم النُخبة الأكثر فهمًا وحرصًا على مصالح مجتمعاتهم من خلال مواقفهم سواءً كانت ثابتةً أو متبدلة لمقتضى الضرورة مع المتغيرات الظرفية على أن يكون تبديل الموقف مفضلًا لخدمة الجميع وليس تغليبًا لمصالح شخصية تخدم فردًا من السُلطة أو تخدم بلدًا بعائدِ ضرر على بلد آخر، وهنا تتدخل القوانين الدولية والأممية لحماية الحقوق تجنبًا لسيادة نفس قانون الغاب سالف الذكر.

يتفق العالم كله اليوم على تبديل المواقف عند الضرورة خدمةً للصالح العام ولا بأس في ذلك شريطة بقاء ثوابت أخلاقية وأدبية حري بها أن لا تتغير كالصدق والنزاهة والأمانة، وهي قيمُ شرف عليا يُعرف بها أهلها كما تُعرف بها بعض الشعوب الراسخة في تغليب التفاهم والتسامح على طمع المصالح وهي سمات ثابتة وملامح شاهدة لا تتبدل بتغير الظروف؛ بل ويعتبر المساس بها إنتقاصًا من شأنهم، وما نواة الحكومات التي تقود دول العالم إلا أفراد يشكلون لبناتها الأساسية التي تبني عليها رؤاها السياسية وأفعالها ولن تُسقطها يد التاريخ؛ إذ تحاول حكومات كل الدول الظهور دائمًا بالهيئة المتحلية بالقيم والمُثل العليا حتى مع تبديل مواقفها لغرض أو مصلحة ما.

لكن ما تبين لنا مؤخرًا من بعض الحكومات على النقيض من ذلك، وإن حاولت الالتفاف على الحقائق ولي عنق الرأي العام المناهض لمواقفها الصادمة بالقوة أو التهديد أو استخدام قوانين طوعت سلفًا تحت مسميات وتعريفات لخدمتها في مثل هذه المناسبات.

هكذا وجدنا المسؤول الأمريكي رفيع الشأن خير شاهد على ذلك عندما يتحدث عن موقف بلاده تجاه القضية الفلسطينية ويطلق الألقاب والمصطلحات المعلبة بوجهين، بين موقف المتعاطف الملائكي الباكي على الحقوق الإنسانية والمدنية، وموقف آخر بين التعسف الشيطاني في استخدام قوة الفتك وقتل الإنسانية وتدمير المدنية وهو يعلم أنه كاذب كما نعلم ويعلم كل العالم، لكنه يحاول أن يُمثل موقف بلاده مثالًا جيدًا للسلام واحترام القانون الدولي، بينما هُم في الإجرامِ غارقون إلى الذقون ومن تبديل مواقفهم كل ساعة لا يخجلون.

أما بالنسبة للأخلاقيات والأدبيات العامة والقيم والمثل العليا فمكب النفايات مكانها في شرعتهم ومنهاجهم ولا تهمهم وصمة العار التي يوصمون بها عندما يسيل لعابهم للاستئثار بأكبر قدر من المنافع والمصالح المادية ولعل استخدام حق النقض "الفيتو" هو أنصع دليل على شريعة الغاب التي ينتهجونها بغرض البقاء في تمكين الرغبات وتسمين الشهوات لأطول وقت ممكن.

لن تحيد إسرائيل ربيبة الدلال، أوروبية المولد والموئل، أمريكية المنشأ والمرعى، عن تلك المُثل الدنيا التي تغذت عليها منذ ميلادها الأول، وقد بدت عوارض التشكل ومحاولات التغول على مُحياها المتخاتل وفي أعطاف كيانها المترهل كونها تركيبة هجينة تولدت من المختبرات السياسية لبلفور وهرتزل، وهي مصابة بخلل جيني ناتج عن اجتماع الصهيونية واليهودية في ليلة ماسونية حمراء لتتلقفها مرضعات التربية الغربية المعروفة بأخلاقها العالية! ما ينفي عنها صفة الحياء والخجل عند ارتكاب الجرائم والمجازر والفظائع وأي فعل منافٍ للفطرة السليمة القويمة تحت ذرائع لا تقبلها غرائز الكواسر ولا الجوارح فضلًا عن شهوات الإنسان العاقل والجاهل، ولا تشعر بالحرج ولايرق لها طرف عند رؤية جرائمها في حق الأطفال والنساء والشيوخ، بل ويعمد عناصرها إلى التفاخر والتباهي بمنكرهم وسوء أفعالهم ويعلنونها بكل عزة وشموخ.

ما إن كشف الأمين العام للأمم المتحدة عن المادة 99 النائمة في كهف هذه المنظمة الدولية منذ 70 عامًا وازدادت تسعًا والتي تعطيه الحق لتنبيه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها تهدد حفظ السلم والأمن العام، حتى ثارت ثائرة الكيان المحتل المصاب بالشيخوخة المبكرة ونالت ألسنتهم السليطة من الأمين العام، وكالوا له من التهم ما كالوا، ثم جعلوا السقاية في رحل نتنياهو، الذي ما انفكوا يُحمّلونه كل أوزارهم وهو بها مرحب مستبشر؛ كأنه يجد ريحَ يوسف، فإذا استفاق من خرفه مع دخول كيانه الممسوخ سريعًا في مرحلة التخبط والرعاش جراء ما مُني به من إحباط في صفوف جنوده وخسائر غير مسبوقة وعلى رأسها سمعتهم عند شعوب العالم المُضلل بعد أن طال بهم الأمد في 60 يومًا، عاد لصناعة تمثال عاجي جديد لنفسه وكيانه المترهل، كما فعل أسلافه في العقود السبع الشداد من الاحتلال ليُخرج لهم جالانت كل 10 أيام عجلًا جسدًا له خوار، ولكن موسى لن يأتي هذه المرة من ميقات ربه وسيظل الموالون للعجول عاكفون حتى يفرق شملهم صرخات ممهورة بأسماء شهداء فلسطين.

إنَّ رحمة المرء بالناس وعرفانه بربه علاقتان طرديتان تزداد الأولى بزيادة الثانية والعكس في التناقص صحيح، فمابال هؤلاء القوم منذ كانوا وهم في نزاع وتباغض مع غيرهم من الأمم؟! وكأن العيش بسلام مع بقية الناس محرمٌ عليهم إلا بافتعال المكائد والحيل والفتن والحروب والقتل والدمار، حتى مالوا عن رؤية الحق ميلًا عظيما وغرهم بالله الغرور وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فنزعت الرحمة من قلوبهم؛ ألا إن أعرف الناس بحق الخلق أعرفهم بحق الحق وخير الناس من غلب خيره شره وشر الناس من غلب شره خيره.