المقاطعة العُمانية.. وصناعة البدائل المستدامة

 

د. عبدالله باحجاج

أهم ما يُميِّز بلادنا تجاه قضية المُسلمين الأولى "فلسطين" في فصلها الآني المحتدم في غزة، التماهي بين الموقفين السياسي والشعبي، مع تسجيل السبق للموقف السياسي في سقفه العالي، وذلك عندما اعتبر جرائم المُحتل إبادة جماعية وتستوجب المحاكمة الدولية، وذلك قبل تصعيد الموقف الشعبي ومطالبته الدول النفطية بالمقاطعة ووقف التطبيع مع الكيان الصهيوني وطرد سفراء الدول التي تدعم العدوان على غزة.

وتناغمًا مع هذا التماهي اعتبر معالي السيِّد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية عرقلة واشنطن قرار في مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النَّار في غزة بأنه "إهانة مشينة" للأعراف الإنسانية، مُعبِّرًا عن أسفه بأن واشنطن تضحي بأرواح المدنيين الأبرياء من أجل الصهيونية. ولم يبق هناك من سقوف سياسية تترقب التماهي سوى النفط وطرد السفير، وهي سقوف اجتماعية، ولن نستبعدها إذا استغل الصهاينة الفيتو الأمريكي، وارتكبوا مذابح بشرية جديدة.

بذلك لم يخذل أهل عُمان أشقاءهم في فلسطين المُحتلة، ولن يخذلوهم مهما تكالب عليهم الأعداء الواضحون والمُستَتِرون، كما إنهم لم ولن يخذلوا بقية أشقائهم في الإسلام والعروبة والإنسانية؛ فشهادة من لا ينطق عن الهوى وإنما هو وحي يوحى سيدنا ونبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام في أهل عُمان كانت نابعة من ديمومة الحكم على الكينونات، وليس ظرفيته الزمنية؛ فالشهادة هي نفاذ لعمق أصالة العُمانية وتجذراتها العميقة من حيث الفطرة وسلامة وضمانة تأسيسها المستدام. فقد أخرج الإمام مُسلم في صحيحه من حديث أبي برزة الأسلمي؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى حي من أحياء العرب مبعوثًا فسبوه وضربوه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أنَّ أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك" صدقت يا رسول الله.. وردة فعلهم في مقاطعة البضائع الصهيونية والشركات الداعمة لها تأتي في مقدمة التأثير العربي والإسلامي، فهناك متاجر أغلقت وشركات خسرت، والكثير منها قلقة على أوضاعها الاقتصادية، وعندما تذكر بعض الإحصائيات عن خسائر تقدر بتريليوني دولار في مدة زمنية قصيرة من المقاطعة العربية والإسلامية، فمثلًا خسائر 13 مليار دولار في القيمة السوقية تكبدها سهم "ستاربكس" على مدار 12 جلسة في البورصة الأمريكية، يمثل نزيفًا كبيرًا لعملاق القهوة. وعندما تتراجع بعض الشركات عن دعمها وتحويله للجانب الآخر أو تُبرِّر فعلها أو تعديل سياساتها نتيجة تراجع أرباحها أو خوفها من القادم، فهنا أمامنا سلاح ناعم مؤثر بصورة مباشرة.

ومن مِنَّا لم تُثره مشاهد توزيع الشركات الوجبات الغذائية على جنود الاحتلال أو إعلانها الملايين من الدولارات للكيان الصهيوني؟ إنه استفزاز مستهدف دون شك، والحكم القطعي هنا يُعززه استخدامها اللغة العربية لتسويق دعمها، فلماذا تُوظَّف لغتنا رغم أن جمهورها من غير الناطقين بها؟ من هنا فإنَّ هذه الشركات مُشارِكة في جرائم الإبادة الجماعية والتهجير والتطهير؛ مما يستوجب مقاطعتها دون تردد؛ بل ينبغي الانتقال الآن من ردة فعل العواطف إلى الفعل المُنتِج للفرص الاقتصادية التاريخية، لن نُنكِر تأثير المقاطعة على الوظائف، نُسلِّم بذلك، لكن هذا لا يعني ترك المقاطعة ما دامت تعد من الأسلحة الاقتصادية المؤثرة، وإنما التفكير في كيف نجعل من المقاطعة حركة ازدهار اقتصادية محلية مستدامة تنتج بدائل محلية لمنتجات المقاطعة وتضخ فرص مُتعاظمة.

وعوضًا على تحميل المقاطعة تبعات فقدان الكثير من الوظائف، يستوجب التفكير في كيفية حمايتها في ظل استمرار المقاطعة ضمن تبني مسار إيجاد البدائل وفق منظور استراتيجي متوسط المدى بمسارين أساسيين؛ الأول: الإنتاج المحلي؛ سواء عبر التوسعة في الإنتاج من قبل الشركات المحلية، أو إقامة شركات جديدة للإنتاج. أما المسار الثاني فيتمثل في إعادة الاستيراد من دول شقيقة وصديقة لم تُشارك في العدوان على غزة، وسنجد عندئذ بلادنا في حركة ازدهار اقتصادية تصنع الاستدامة التي يُمكن الرهان عليها؛ لمواجهة كافة التحديات المُقبلة؛ فالتوترات والصراعات والخلافات أصبحت جزءًا من بنية المنطقة والعالم، وتعززها الآن مجازر غزة، وآفاقها مقلقة جدًا، لذلك تُتاح لبلادنا فرص كبيرة للإنتاج المحلي من رحم المقاطعة.

وكلما سارعنا في هذا المسار، حققنا السبق. وكلما كان لنا السبق، أسسنا حركة اقتصادية محلية آمنة، أو على الأقل في أحسن التفاؤل، فإن بلادنا ستكون في حقبة انتعاش البدائل المحلية القادرة على المنافسة المفتوحة.. لذلك نُطلِق على مرحلة المقاطعة بأنها تُنتِج فرصًا لن تتعوض، ومن ثم علينا استغلالها عاجلًا. وطبيعة المرحلة الراهنة تحتاج إلى تشكيل لجنة تفكير مكونة من غرفة تجارة وصناعة عُمان بفروعها في الولايات ورجال الفكر في مختلف الحقول المهنية، لبلورة مسار البدائل المحلية، وجعلها تقود حركة اقتصادية محلية مستدامة بدعم من القطاعين العام والخاص؛ لأننا في فرص تاريخية لا تُفوَّت فعلًا، وهي فرص انتاج البدائل محليًا وبجودة عالية؛ بل عالمية.

من ثم يتحتم على الغرفة بفروعها والجهات الحكومية المختلفة الوقوف مع المؤسسات والشركات العُمانية المتضررة، ومساعدتها على صناعة البدائل والعلامات التجارية، في ظل توفر الكثير من موادها الأولوية محليًا، ونحملها هنا مسؤولية تاريخية، وهي كيف نجعل بلادنا رائدة في صناعة البدائل من حيث الكم والجودة والتعدد والتنوع، وهذا الأخير ينبغي أن يشكل عنوان المرحلة الوطنية العاجلة، لذلك يجب أن يكون هناك فكرًا استراتيجيًا يأخذ زمام المبادرة، ويحرك الفاعلين الاقتصاديين العُمانيين لهذه النهضة الاقتصادية التي تنتجها لبلادنا المقاطعة الاقتصادية، وهذا سيكون كذلك مصدر دخلا إضافيا لخزينة الدولة متعدد الأوجه.

على أن يُصاحب ذلك منذ البداية تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية التعريف بمنتجات البدائل المحلية المصنعة، وضرورة أن تكون خيار المواطن والمقيم معًا، وذلك على اعتبار أن البديل منتجنا الوطني الذي يوفر فرص عمل للشباب ولخزينة الدولة الموارد، ويُساهم في تنشيط الحركتين التجارية والاقتصادية للبلاد، ويُعزز من ميزة الاستقرار الاقتصادي لبلادنا في الأزمات والتوترات. وفي هذه الحالة ستقوم الشركات برفع الإنتاج وبزيادة الاستثمارات، وسنشهد ولادة مصانع محلية جديدة، ولضمانة ديمومة هذا الازدهار الاقتصادي الجديد، ينبغي اعتبار مقاطعة منتجات الشركات الصهيونية والداعمة لها دائمة، لا تنتهي بانتهاء العدوان على غزة. وعندما ينتهي ستظل تداعياته دائمة على البشر والأرض الى يوم الدين، فلن ننسى الإبادات والتهجير وتدمير المساجد والمدارس والمنازل، فهي دائمة ماديًا وسيكولوجيًا، وبالتالي مقاطعة هذه الشركات ينبغي أن تكون دائمة، وديمومتها في بلادنا ستكون من خلال صناعة منتجات البدائل، وبذلك نكون قد تجاوزنا ردة فعل العواطف الى صناعة الفعل الواعي الذي تتعدد مصالحه ومنافعة على بلادنا، وسيشكل لها كبرى الضمانات لمواجهة الأزمات والتوترات.