إسقاط القدوات وتحديات التنشئة

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

هناك مقولة شهيرة ومتداولة على نطاق واسع تقول: "إذا أردت أن تهدم حضارة أمة، فهناك وسائل ثلاث: اهدم الأسرة، اهدم التعليم، إسقاط القدوات، ولكي تسقط القدوات عليك بالعلماء، اطعن فيهم، شكك فيهم، قلل من شأنهم، حتى لا يسمع لهم ولا يقتدي بهم أحد".

إنَّ التربية بالقدوة هي أحد أساليب التربية وتنشئة الأجيال، وتهتم المجتمعات كثيراً بصنع نماذج لشخصيات اجتماعية؛ سواء كانت رموزا سياسية وطنية أو دينية أو علمية أو فنية أو رياضية أو غيرها من المجالات، حتى تكون أمثلة تحتذي بها الأجيال القادمة، وتقتدي بها، في محاولة للوصول لمستواها المتميز من البذل والعطاء والتحلي بالصفات التي تحملها هذه النماذج، خاصة على مستوى القيم الاجتماعية والسلوك السوي.

إنَّ هوية المجتمعات تتشكل بما تملكه من قدوات، وما تنهجه من أساليب في التنشئة الحديثة، لذلك وعبر التاريخ اهتمت الحضارات بهذا الجانب، وقد سعت المجتمعات لإبراز ما يميزها من شخصيات مؤثرة، فعلى سبيل المثال ما إن تذكر الحضارة اليونانية إلا ويتبادر للذهن عصر الفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو وسقراط، والحال ذاتها عندما نذكر عصور ما قبل الإسلام  حيث يبرز الشعراء كالمتنبي وامرئ القيس وعمرو بن كلثوم وغيرهم، وفي عهود الإسلام يبرز العلماء والمجددون في الفكر الإسلامي، وهكذا الحال على مر العصور.

وفي مجتمعاتنا العربية، ومن المؤسف أن نشاهد من يتطاول على القدوات للدرجة التي تصل به إلى محاولة التشكيك في قيمتها ومكانتها العلمية والاجتماعية، وهذا الفعل مرده إلى الفهم السطحي لمعنى حرية التعبير عن الراي، وعدم إدراك الفرد لحقيقة مستواه الفكري، فيظن أنه بمجرد قراءاته لعدد من الكتب وتفرده بتخصص معين أنه أصبح متمكناً وقادراً على نقد العلماء الراسخين في العلم، بل إن أكثر من يقوم بهذا الفعل ينطلق من سوء تقديره لمفهوم الصراحة وخلطه بينها وبين الوقاحة وانعدام اللباقة.

ومن البديهي أن كل رأي قابل للصحة والخطأ وهذ حقيقة علمية ثابتة وأن النقد ديدن العلم، وأن التمحيص في كل ما يرد للإنسان هو منفذه لقبول السمين وتجنب الغث، لكن بشرط أن يمارس كل ذلك وفق أدبياته وأصوله ومنطلقاته وآلياته، وأن يمارسه من هو أهل لذلك حتى لا يكون الهدف منه زرع الشك في نفوس الناشئة، وتضليل الناس حول هذه الشخصية الاجتماعية، وإفقاد المجتمع أحد أهم أساليب التربية الحديثة؛ وبالتالي الوصول إلى مرحلة من البحث عن نماذج بديلة وقوالب تناسب الفراغ الذهني الذي يتركه مثل هذا السلوك.

وفي الوقت الحالي، بدت عملية إسقاط القدوات الممنهجة سهلة للغاية في ظل توافر العديد من العوامل المساعدة، كضعف مؤسسات التعليم، وقصور دور المؤسسات المجتمعية التربوية مثل الأسرة والمسجد، وانشغال المربين بالحياة والأعمال، والاستعانة ببدائل المربين مثل العاملات المنزلية ودور الحضانة، والأسوأ من هذا كله هو توافر الوسائل لنشر هذه الأفكار ورواجها وسهولة الحصول عليها، وأقصد هنا وسائل التقنية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي.

لقد قدمت هذه الوسائل خدمة جليلة لأصحاب الأفكار الهدامة، والذين يسعون لإفساد النشء من خلال إسقاط القدوات، وعندما نرى أن مساحة صوتية في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي تسفه رأي عالم جليل، فعلينا أن ندرك أن الهدف ليس مجرد حرية التعبير عن الرأي وطرح ومناقشة الأفكار، وإنما الهدف أكبر من ذلك بكثير، وعلينا أن نعي أن من يقوم بهذا الفعل لديه أجندة محددة للوصول بالمجتمع إلى أدنى مراحل المحافظة على القيم التي يتمتع بها أفراده.

وفي المقابل، نرى أن النماذج السيئة تظهر على السطح ويتم الترويج لها بشكل يثير الريبة والدهشة، وتتصدر المشهد في وضع مريب يجعلك تتساءل عن أسباب ذلك، ولماذا يحاول البعض إظهار المجتمع من خلال هؤلاء الأفراد الذين لا يملكون فكراً ولا محتوى هادفا ولا معرفة علمية ولا قيما يمكن الاعتداد بها لصناعة جيل يواجه تحديات المستقبل، بل إن بعض هذه النماذج وصلت بها الحال إلى اعتبارها أحد عوامل هدم القيم المجتمعية وتقويض بناء الاسرة ومصدر للسلوك السيئ.

علينا كمسؤولين عن تربية النشء الانتباه جيداً وقراءة الأحداث التي تمر علينا يومياً قراءة تحليلية فاحصة، فلكل سلوك سبب ظاهر وسبب مخفي، والمسؤولية تلزمنا بأن نقف في وجه من يحاول إسقاط القدوات لأن ذلك سوف يعود أثره علينا جميعاً، وأن نتصدى لمحاولة صناعة نماذج سيئة وتقديمها كقدوات لأبنائنا وبناتنا، والله من وراء القصد.

تعليق عبر الفيس بوك