سالمًا مُنعَّمًا

 

سارة البريكية

sara_albreiki@hotmail.com

 

 

يَمرُّ مساء السابع من أكتوبر فيترك غصة بالقلب والوجدان، ويعبر محيط الذاكرة التي لا تكفي، ويكاد النص أن يكون مفقودا تحت ركام المنزل الذي هده القصف العنيف في ليلة البارحة، ولم أستطع إيجاد ما تبقى من رغيف أكلناه على العشاء أنا وأمي.

أمي التي رحلت بهدوء الى الجنة، وكنت أتحدث معها يا أمي هل أناولك الماء أو العصير أو ماذا تحبين أن تشربي، إلّا أنها أشارت الى جهاز التنفس اليدوي، فناولتها بعد أن وضعت الكبسولة فيه.. أمي هاكِ تنفسي الآن جيدا أمي ما بال شفتيك مرتخيتين أمي ماذا يحدث؟! أمي أمي..

قصة من غزة بطلها الدكتور عبدالله، عندما رحلت أمه الى بارئها بعد قطع العلاج عن المصابين بمرض السرطان وتوقفه بتاتًا، فكيف يتم اعطاؤهم العلاج ولا يوجد سبيل لذلك.. قصف.. لا كهرباء.. لا ماء.. كانت امي صابرة وتحملت شهر بدون علاج كيماوي.. ولكن إرادة الله نافذة، ولصبر الجسد البشري ومقاومته حدود.. كحدودنا مع الدول العربية الشقيقة كمنع وصول ناقلات الأغذية والماء، كنهاية الطريق المملوء بالألغام، كلغم سينفجر فيك لا محالة، كعبوة ناسفة ستنسفك في الوقت المحدد.. صبرت أمي واحتسبتها شهيدة وكانت توصي جارتنا (خلي بالك من عبود)، فقد أحست بدنو الأجل رغم كل ما نمر به. حملنا جسدها إلى المستشفى وصلينا عليها هناك، ونحن في المقبرة مر صاروخ بقربنا توقفت للحظة ما بالك أيها الصاروخ لا تشق أرض المقبرة أيضا وتقتلع كل هذه الجثث لتعود الى الحياة، أم أنك تبحث عن ضحايا جدد. أما عني، فأنا متاح لذلك فقد ذهبت أغلى ما أملك ولم يتبق عندي شيء كي أناضل من أجله؛ فالماء والهواء أصبحا لا يشكلان لي حياة، إنما حياتي الآن أدفنهاـ شهادتي التي تعبت لنيلها باتت في عيادة مقصوفة لم يصبح لها معنى، ولكنني مفارق مفارق.. اليوم أدفن روحي مع ما تبقى من بصيص أمل، وأدفن أيامي الجميلة والضحكات والحكايا والسنين والأيام والعمر الجميل الذي لن يتكرر.. ها أنا يا أمي أدفنك، سترحلين وسابقى حزينًا مُسجًا بين ركام المنزل المليء بالحب. ها أنتِ فارقت حياتي كنسمة جميلة وكبسمة عابرة وكسماء صافية وكريحانة يظلها ظل دافئ وكقبلة ثكلى.

إن ما نراه ونشاهده يُدمي القلب والعقل والروح والفكر والمشاعر إن هذه الأحداث التي تمر ليست بأحداث عابرة وآلاف الشهداء الذين ظلوا يحاربون لآخر رمق وضحكات الأطفال الأبرياء وصدى أصواتهم التي تمر من أذني ولوحة رسمها ذلك الشهيد الصغير الذي كان يحلم أن يعيش بسلام وطفلة صغيرة باتت وحيدة وكل ذكرياتها كانت مع بيت وأسرة صغيرة تلاشت كلها..

ها أنا أُهيل التراب على أغلى ما أملك.. ها أنا أهيل التراب على روحي، فقط رحلت للجنة وبقيت على هذه الأرض التي آلمتنا كثيرا وأوجعتنا وحطمتنا ولم يتبق لنا سوى هذا القلب المثقل بالآلام والأحزان والأسى.

هللت التراب.. مشيت بثقل كبير وكأن أقدامي لا تحملني.. المسير المعتق.. سالما منعما.. لاجلك يا مدينة.. هل أراك.. الوداع الأخير.. لكن عبود بات شخصا مختلفا لم يعد الدكتور عبود كما عهدته يا أمي كبرت في ليلة رحيلك ألف عام عندما ستعودين وعندما سيحل النصر وعندما سنصلي في الأقصى ربما أعود ذلك الذي تعرفينه وربما أفضل من ذلك لكن الآن. هناك نقاط.

الأكثر قراءة