سارة البريكية
أكتب لك للمرة الأخيرة وللمرة الأخيرة التي أتنفس بها، فلربما لن يكتب لي الله البقاء، ولربما لن نرى بعضنا مجددا، ولن تمسك يديك أطراف يدي الصغيرتين كما كنت تصفهما دومًا، وربما لن تمر عيناك وتتفحص نظرات عينيي إن كنت بخير سعيدة أم حزينة أم أتظاهر بالسعادة أم يقتلني الأسى على ما يحدث في بلدي، وكعادتك تقوم بمواساتي، وأن الخيرة فيما اختاره الله، وإننا نمر باختبار صعب، فإما أن نعبر إلى بر الأمان، وإما أن نموت، وليس أن نعبر تعني بها عدم الموت؛ ففي كلا الحالين نحن موتى، ولكن كنت تقول لي أن نستشهد ونحن راضون بما يحدث ومجاهدون بكل ما أوتينا من قوة من طاقة من مشاعر من حب من إيمان أفضل من أن نموت ونحن نلعن القدر والظروف الغابرة التي تمر بنا وتجتاحنا واحدًا تلو الآخر.
وكأن الساعة حانت وحان موعد الفراق الأبدي ولربما نلتقي في عالم آخر وربما سأراك قادما نحوي رافعا كلتا يديك مشيرا إليّ تبحث عني بين الطيور والزهور والأنهار العسلية واللبن الذي لا يشبهه شيء هنا.
إنك ستتلقى خبر استشهادي وستفرح لن يخذلني الله في هذه النقطة التي رجوتها منه، وإنما سوف يجعلك تباهي بي الجميع فأنا سأشفع لك أيضا حتى لو توقفت الحرب ولا تنسى أن تعيش بحب وتكافح في هذه الحياة كما عهدتك قويا مناضلا شغوفا دوما بالتعلم محباً للجميع ولوطنك مخلصا وصادقا فمن يخون وطنه لا يستحق أن يعيش فيها ومن يلعن هواها فهو جاحد أرعن.
هذه المرة لن أتذمر لك كعادتي، ولن اشتكي هذا الحال، ولن آسف على ما يمر بنا، فنحن شعبُ مختار، والله يحبنا، اختارنا واختصنا، نحن أقوياء وعظماء ونتحمل أكثر من الآخرين ونقوي بعضنا بعضا..
عندما تقرأ ما أكتبه لك ستعلم كم هذه القوة التي تسري في دماء الأطفال والعجزة والشباب هي قوة ربانية لا يملكها أي بشري آخر؛ فالآخرون يخافون من ظلهم الذي يمشي خلفهم ويخافون حتى النوم في الظلام، وحتى في الظلام فهم يشعلون السراج أو الشموع أو المصباح الصغير؛ كي لا يبقوا في العتمة؛ فالعتمة موحشة، أما نحن فنتأقلم سريعا.
هنا الأطفال تطير عاليا في كل دقيقة وأراها تحلق على سماء غزة وتحوم حولها في طريقها للجنة فالجنة من هنا قريبة؛ حيث رائحة المسك تملأ الأجساد المسجاة أرضا، والمسك يعبق في الأزقة، وتحت كل قصف وفوق كل أرض ملأتها دماء الشهداء الأبطال، فكيف سأحزن إنني سأكون منهم لا والذي خلقني أنا أسعد البشر، وربما السعادة الحقيقية التي لم نتذوق طعمها ونحن أحياء سنتذوقها، ونحن عابرون إلى الأفق العظيم ونرى أبواب الجنة الأبدية تفتح لنا فالحياة في الجنة حياة والعيش هنا مؤقت سنعبر ولو بعد حين.
إن الأنفاس التي تعلو وتهبط الآن وترى كل ذلك الجمال تتمنى أن تخفت لتذهب إلى مقرها الأخير ولتلاقي خالقها الذي يستحق أن نستشهد في سبيله كيف لا وهو الذي أوجدنا من العدم ونحن لاشيء يذكر فتكبرنا وتبجحنا ورأينا من أنفسنا أسطورة واستحقرنا الآخرين ومن ثم وعينا وكان الأوان قد فات فأسفا للذين لم يصحوا من سباتهم العميق وأسفا للذين يلعبون ويلهون وينسون أن القيامة آتية وأن اللقاء آتٍ لا محالة.
عندما تجدني أسألك أن تمسك يدي للمرة الأخيرة لأنني سأشعر بك فأنا لم أمت نحن لا نموت كما ترى إنما تحلق أرواحنا في سماءها ثق بأنني سأحس بيديك ولا تنسى أن تطبع قبلة على جبيني الذي لطالما كنت تطبع قبلاتك عليه وأنت عائد من مقر عملك.
حرف أخير:
اعتني بنفسك جيدا.. وثق أن فلسطين ستنتصر!