إرادة الشعب الفلسطيني لا تُقهر

سالم البادي (أبو معن)

نعلم يقينا أن انتفاضة الشعوب الحرة الكريمة وثوراتها ضد الظلم والطغيان والاستبداد والاحتلال هو حق مشروع، فالشعوب تناضل وتدافع وتحارب وتقاوم وتقدم تضحيات كبيرة وعظيمه من أجل دفاعها عن النفس والعرض والأرض ونيل استقلالها وحريتها، وبالتأكيد بإرادتها وعزيمتها وإصرارها حتما في النهاية ستنتصر.. ولكنها لن تستلم أبدًا.

التاريخ أثبت للأجيال السابقة والحالية أن مدة بقاء الشعوب تحت الظلم والطغيان والاستبداد والاحتلال لم ولن يطول عمرها أبدًا، ومدة بقائه هي مسألة وقت حتى زواله. بيد أن الشعوب تدرك وتعي جيدا أنَّ ثمن الحرية والاستقلال ليس رخيصا، ودرب النضال والمقاومة ليس سهلا وطريق التحرير ليس مفروشا بالورود؛ بل مليء بالتضحيات والدماء، وفاتورته غالية جدا والمتمثلة في مزيد من الشهداء والجرحى ودمار في البنى التحتية وعجز في الخدمات وتوقف في الإمدادات الضرورية وغيرها. لكن يقيناً أن الشعوب الحرة باقية والطغاة والغزاة راحلون.

وها هي إرادة وعزيمة الشعب الفلسطيني أثبتت للعالم أنها لا تقهر ولا تنكسر ولا تستكين أبدا، فأتخذت المقاومة من إرادتها درعها القوي المتين الصلب الذي لا يلين ولا ينكسر، وسلاحها الذي لا يقهر وعزيمتها القوية التي لا تضعف وهمتها العالية الشماء التي لا تسقط أمام أكبر عدو متسلط ومتغطرس، وأبشع كيان محتل متشدد وعنصري يمارس كل أنواع التمييز العنصري.

وسطر الشعب الفلسطيني بطولات كبيرة وتضحيات وطنية عظيمة أمام أكبر ترسانة حربية بالمنطقة وأقوى أجهزة استخباراتية في العالم، وما يمتلكه هذا العدو من تقنيات وبرامج وأنظمة متقدمة متطورة، ومنظومة دفاعية كبيرة لا يستهان بها ومنها القبة الحديدية التي كان العدو يروج لها ويتفاخر ويفاخر بها.

والأحداث الأخيرة في عملية "طوفان الأقصى" أثبتت للمقاومة الفلسطينية وعلى مرأى ومسمع الجميع وبما لا يدع مجالا للشك، هشاشة النسيج العسكري والأمني والاستخباراتي والدفاعي لهذا الكيان، وأنه ليس نسيجا فولاذيا مثل ما كان يدعي.

كذاك أثبتت الأحداث الحالية خلخلة النسيج الفكري والأيديولوجي للعدو الصهيوني فضلا عن هشاشة النسيج الاجتماعي والسياسي، مع مواصلة أعماله الإجرامية غير الإنسانية والتي تصل الى جرائم حرب مثل تعمد قتل الأطفال الأبرياء والنساء وكبار السن المسالمين الآمنين في بيوتهم من خلال هدم المباني والبيوت عليهم، والعقاب الجماعي المتمثل بقطع جميع الخدمات عن المستشفيات والمؤسسات الصحية والتمويلية والاستهداف المباشر للمواطنين وغيرها من جرائم الحرب التي يمارسها هذا العدو الصهيوني المحتل باستمرار تحت غطاء حماية مجلس الأمن.

بالرغم من حصار الشعب الفلسطيني وخاصة قطاع غزة المعزول تمامًا عن العالم الخارجي منذ سنوات وما يعانيه من قلة موارده وإمكانياته والصعوبات التي يواجهها في حياته طيلة سنوات الاحتلال، إلا أنه أثبت للعالم أن إرادة الشعوب أقوى من إرادة الترسانة الفولاذية التي يتغنى بها العدو المحتل.

وأثبتت كذلك الأحداث الحالية لشعوب العالم أن هيبة وقوة هذا الكيان المغتصب ليست إلا أكذوبة صدقها العالم العربي وأن الحقيقة أن جيشه من ورق؛ حيث تطايرت قوته في غضون ساعات قليلة أمام بضع مئات من أفراد المقاومة الفلسطينية البواسل الشجعان المغاوير، وبعتاد متواضع محدود، ولكنها متسلحة بإرادة وعزيمة قوية لا تهاب الموت، فكانت النتيجة المباركة بأنها أصابت العدو في مقتل، حتى وصف رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو يوم انطلاق العملية بأنه "سيبقى يومًا أسود في تاريخ الشعوب، والأفظع للشعب اليهودي منذ المحرقة النازية".

لقنت المقاومة الفلسطينية العدو درسا لن ينساه أبدا، وقدمت للعالم نموذجا جديدا في إدارة شؤون الحروب التي امتازت بالسرية التامة وبدقة وسرعة متناهية في تنفيذها بميدان المعركه، فضلاً عن انضباط وسرعة تحركاتها العسكرية، وحسن تميز أسلوبها في أداء مهامها التكتيكية ومدى نجاح عملياتها العسكرية وبأقل الخسائر، مع مراعاتها لقوانين وأخلاقيات الحرب الدولية، فضلا عن تطبيق مبادئ وقيم وتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف في كيفية التعامل مع الأسرى وحماية أرواح المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ، وما امتازوا به من أخلاقيات إنسانية.

قدمت فصائل المقاومة الفلسطينية في هذه العملية الأخيرة أروع الأمثلة في البطولة والشجاعة والبسالة بإرادتها الصُلبة وعزيمتها القوية من أجل إرسال رسالة واضحة للعدو والعالم بأن قضيتهم قائمة ولم تمت ونضالهم صامد حي لم ولن يموت ومقاومتهم المشروعة مستمرة، من أجل استعادة كرامتها وعزتها وحريتها واستقلالها.

لقد خاض الشعب الفلسطيني الأبيُّ، الثورات والانتفاضات منذ نكبة 1948 حتى يومنا هذا، وظل يكافح ويجاهد ويقاوم لاستعادة أرضه وكرامته من جبروت عدوه المحتل المغتصب لأرضه منذ أكثر من سبعة عقود، وقدمَ الآلاف من الشهداء والجرحى والآلاف من الأسرى وما زال يقدم الأرواح وملايين النازحين والمهاجرين فِداءَ الحرية والكرامة.

عملية "طوفان الأقصى" ستكون لها تداعيات كبيرة على الوضع السياسي والجيوسياسي الإقليمي، ولكن من الصعوبة بمكان أن يتم تقييمها حاليا، والتنبؤ بنتائجها، ولكن ما سيُقدم عليه الكيان المحتل خلال الأيام المقبلة وحده سوف يتحمل المسؤولية الكاملة وما سينتج عنها.

عملية "طوفان الأقصى" لا تقتصر على أنها مجرد صفعة أو مفاجأة عسكرية للمحتل الصهيوني، وإنما تتجلى أهميتها في التطور المفاجىء والسريع والمتنامي في "فصائل المقاومة الفلسطينية" والتي تعدت مفهوم العمليات الميدانية النوعية مثل الكر والفر؛ بل حصلت المقاومة على إشادة كبيرة من بعض الدول الكبرى والمنظمات والخبراء العسكريين والأمنيبن على ما أحرزته من تقدم وتطور ميداني في تنفيذ خطط فنون وطرق وأساليب الحرب والقتال الحديثة المبتكرة التي تواكب تطور التقنيات العصرية الحديثة.

إن هذا الشعب الفلسطيني المقاوم الساعي إلى نيل حريته وكرامته واستقلاله أثبت للعالم أجمع أنه شعب صامد شامخ لا ينحني ولا يركع ولا يستكين، ولا يستهان بقدراته المتواضعة وعزيمته وإرادته القوية الصلبة الصارمة أمام أكبر عدو للإنسانية قاطبة، وأمام أبشع كيان صهيوني متشدد على مر العصور.

وهنا لا بد أن تركز المقاومة الفلسطينية على أهمية المرحلة المقبلة من القضية الفلسطينية والتي تتمحور حول توحيد الصف الفلسطيني والتمسك بالثوابت الوطنية العليا المشتركة، وحول تمكين قضية تحرير المسجد الأقصى الشريف، والتصدي لأي ممارسة سياسات استيطانية أو استفزازية في كل أرجاء فلسطين، والتركيز على العمل الجاد في أهمية تسويق القضية الفلسطينية إعلاميا عن طريق خوارزميات مبتكرة وحديثة ومتطورة تتواءم مع التقنيات المتطورة الحديثة لإيصالها لجميع شعوب العالم وتوضيح الصورة الحقيقية للعدو الصهيوني المحتل المغتصب الغاشم المتغطرس.

ورغم الخذلان والتقاعس من قبل المجتمع الدولي حول القضية الفلسطينية حتى اليوم فإنه يقينا سيحقق الشعب الفلسطيني حريته طالَما أنه يمتلك إرادة فولاذية صلبة لا تعرف الانكسار والهوان، وهذا يذكرنا بقول الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي عندما قال:

إذا الشعب يومًا أرادَ الحياة // فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدر

ولا بُدَّ للَّيلِ أنْ ينجلي // و لا بُدَّ للقيدِ أنْ ينكسر