ناصر أبوعون
الشعر هو اللوح المحفور على حائط الروح، الذي نقش المبدعون على سطحه آمالهم، والجدار المقدس الذي خطّ عليه المصلحون رسائلهم الإنسانية الخالدة، وخزانة التراث التي لا تبلى، وشجرة الأنساب التي لا تشيخ، وتُوزّعُ الخَضَار تمائمَ عِشْقٍ في حبّ الأوطان، وجذور تسري في شرايين الأرض، ولا تلبث أن تتبرعمُ فوق قشرتها عرائش يتساقط ضوء الشمس من فوقها بلورات ضوء تكشط العتمة من صدور الأطفال، فيشبون في حضن أوطانهم أوتادا تأبّى الزوال.
وفي هذه القصيدة التي بين أيدينا يطلع علينا الشعر من عرصاتها، وينسج الصحارى بساتين عزّة، فتتعربشُ فوق سدرها عناقيد كروم، تتدلى ثريات متلألأة تضوي حبّاتها رؤى ساطعة، تستنهض الإيمان بالوطن في جبين الخلود، وترسم خارطة لوطنٍ يفركُ الحلم في عينيه، ويزرع الأمل في أرض المستقبل حدائق غنّاء من حبق ويفرش تحت ظلها آرائك تتكيء عليها آمال الأمة على وعدٍ ببعثٍ جديد.
لقد اتخذ الشاعر عيسى بن صالح الطائي قاضي قُضاة مسقط من رائيته (هو الشهمُ البرونيّ) في مدح المناضل الليبيّ سليمان باشا البارونيّ تكئةً ليبذر بيادر الوطن بحنطة النِّضال، وينثر فيها الأزهارَ فرحةَ نصرٍ على رؤوس الفرسان والنشامى، ويستنبت القدوةَ على أسنّةَ الرماح في ميادين الجهاد.
الظواهر الفنية في القصيدة
إذا كان الشعر- كما نراه- خرائط الوجدان الذي يقطر بالشغف، وبيادر الفكر المعشّق في مرايا اللغة، وجداول الموسيقى التي تسيل على سطح الكلمات، ونور الحكمة المشعّ من خلف ستائر الروح الشفيفة، والرياض المُزهرة في الأنفس اليباب؛ إلا إن لكل شاعر طرائقه وتقنياته- التي يحرث بها أرض الشعر- وعصاه التي يهشّ بها على القصائد، ويقودها إلى مواطن البهاء، حتى إذا ما ألقى ظهره على جذع سدرة ليعزف كونشرتو الخلود، تبدّت العديد من الظواهر الفنية كشمس تطلع من خلف الأفق البعيد، وهي كثيرة وتتنوّع ما بين (الإيقاع) وأصداؤه المجنحة في الموسيقى الداخلية والخارجية، والاتكاء على (المجاز)، وتوظيف (الرمز التراثيّ)، وتكثيف الصور والمعاني في بؤر مضيئة داخل فضاء القصيدة. غير أنّ هناك أربع ظواهر مشعّة وساطعة، بل تمثل الأعمدة الأربعة التي قام عليها معمار النص؛ وهي: (الأونوماتوبيا)، و(الانقطاع والتجاور)، و(النبر والتنغيم)، و(التنص) بدرجاته الست.
أولا - ظاهرة التناص
من خلال هذه الظاهرة يمكننا القول بأنّ (التَّناص) أو (النُّصوصيّة) أو (تداخل النصوص) ليست مصطلحا غربيًّا خالصًا، ولا يتفرّد به النُّقاد السميائيون وحدهم، بل ليس من إبداعات ما بعد المدرسة البنيوية؛ فهو مصطلح عربيّ قِحٌّ، قولا واحدًا، ومن أبسط تعريفاته- من وجهة نظرنا- أنّه نصٌّ سابق في وجوده التاريخيّ وتداوله يظهر داخل نصِّ لاحق معاصرٍ له أو مستحدث، أو بعث جديد على هيئة صور شتى منها: ما يكون "استشهادًا"، أويظهر على شكل "اقتباسٍ" لفظًا ومعنى، والبعض الآخر قد يأتي "تضمينًا" داخل تضاعيف القصيدة دون إشارة لفظية تُذكَر تنبيُ عنه، أمّا من صوره النادرة ما يأتي على شكل "قرينة".
وفي الأخير فإنّ (التَّناص) نتاج عملية تلاقح ثقافات وعصور وتحاور نصوص تمرُّ بمرحلة مخاض تتولّد عنها نصوص إبداعية جديدة في بنية تراكمية وثقافية، وهذا المعنى ألمح إليه أبو هلال العسكري في كتاب:(الصِّناعتين)، بقوله: "اللاحق لا يستغني عن السابق في تناول بعض المعاني".
وإنّ محاولة بعض أنصار قصيدة النثر في شكلها الأوربيّ إزاحة الماضي والتنصل من التراث، ومحو ذاكرة الإبداع، و"فصل النص عن ماضيه ومستقبله، يجعله نصًّا عقيما، لا خصوبة فيه، أي إنه نص بلا ظل" وفق تعبير رولان بارت.
وفي الأخير فإنّ التناصّ في أجلّ معانيه- من وجهة نظرنا- يؤكد أن للنصوص ذاكرةً حيّة يستدعيها الشاعر من صندوق (الأنا اللاواعية) إلى بهو النص في حضرة (الأنا الواعية)، ويتحاور من خلال نصّه مع كل إبداع سابق عليه وليس شرطا أن يكون شعرا محضا.
وفي محاولتنا تقديم قراءة نقدية تتوسل بالمنهجية لقصيدة (هو الشَّهمُ البَرْوَنِيّ) للقاضي عيسى بن صالح الطائي قاضي قُضاة مسقط عثرنا على خمسة وجوه للتّناص من أصل ستة أنواع قَعَّدَ مصطلحاتها الناقد (محمد مفتاح) في كتابه (مفاهيم معالم) وهي على النحو التالي:
(1) التَّنَاصُّ التطابقيّ: ومعناه أن يقتبس الشاعر بيتا كاملا أو شطر بيت كامل بوزنه وموسيقاه ومفرداته ومعناه ويضعه في المكان نفسه من قصيدته. وهذا النوع من التناص قد يُسمى بالاستنساخ لمطابقته صورة البيت المنسوخ منه. ومثاله عند الشاعر عيسى الطائي الشطر الأول من بيته [(ولَولَا المُزْعِجَاتِ مِنَ الليَالِي // لَمَا اِعْتَوَرَتْهُ أَجْرَازٌ وبَحْرُ)]. وهذا البيت مأخوذ من شاهد نحويّ للشاعر الجاهلي (ديسم بن طارق) الذي يقول فيه (فلولا المزعجات من الليالي // لما ترك القطا طيب المنام)(إذا قالت حذام فصدقوها // فإن القول ما قالت حذامِ)، وقيل إن البيت الثاني للشاعر جيم بن بن علي بن بكر بن وائل، والد حنيفة وعجل ابني سحيم،
وحذامِ امرأته. وقد ورد هذا الشاهد النحويّ في كتاب (قطر الندى وبل الصدى لابن هشام الأنصاريّ/ص:31) وذلك للتأكيد على أنّ (الاسم المبني على الكسر)؛ فكلمة (حذام) وقعت فاعلا يستوجب الرفع بالضم؛ ولكنها كُسِّرت لأنها مبنية على مذهب أهل الحجاز".
(2) التَّنَاصُّ التَّفاعليّ: وفيه يستدعي الشاعر عيسى بن صالح الطائيّ المعاني الشهيرة التي صارت مضربا للمثل أو الحكمة، واشتُهرتْ بين العامة والنُّخبة وتناقلتها الأجيال عبر العصور، وتداولتها ألسنة الناس على سائر أطيافهم الفكرية؛ وذلك لكونها صدى لتجربة واقعية، ويُشترط في هذا وفي هذا النوع من التناص توافقه مع مقصد الشاعر ورؤيته الفكرية. ومنه قوله: [(فطَعْمُ الماءِ في الأفواهِ عَذْبٌ // وفِي فَمِ مَنْ بِهِ الأسقامُ مُرُّ)]، وهذا المعنى تفاعل به شاعرنا مع شاعرين لهما الحظوة والمكانة الكبرى في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية؛ فأمّا الشاعر الأول فهو أبو الطيب المتنبيّ من قوله: (ومَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مَرِيضٍ // يَجِدْ مُرًّا بِهِ الماءَ الزُّلالا)، وأمَّا الشاعر الآخر فهو محمد بن سعيد البوصيريّ وقد أورد المعنى نفسه في البيت رقم (104) من قصيدته البُردة الذي يقول فيه: (قَد تنْكِر الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رمَد // وَيُنْكِر الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ).
(3) التناص التداخليّ: نلحظ في قصيدة الطائي بزوغ نجم نص شعريّ آخر ودورانه في فضائها، تستدعيه ذاكرة القاريء الحاذق، ويستحضره العقل من صندوق اللاوعي في خزانة التاريخ؛ لكن ظل هذا التناص عاجزًا الإفصاح عن نفسه أو الدخول في عملية تفاعل أو تمازج أو تداخل مع قصيدة الطائي، غير أنه ظل يشغل مساحة من القصيدة ويحاول إيجاد خيوط رفيعة ليترابط معها أو اختلاق صلات لامرئية ليبقى سابحا في مدارها ونسوق هنا نصًّا للملك الشاعر سليمان بن سليمان النبهاني الذي اعتلى سُدّة الحكم في عُمان، وهو من شعراء عصر دولة المماليك، ثم تمرد على حكم الإمام أبي الحسن بن عبد السلام النزويّ، بعد غروب شمس دولة النباهنة. ومن مشهور شعره قوله :[(وتعرفني الهيجاءُ والليلُ والسُّرى // وسمرُ العَوالي والسيوفُ القواطعُ)(ويصحبني في الرَّوعِ رأي مسدَّد // وعزم حُساميٌّ ولبٌّ مُشافعُ)، (وسابغة سَرد وشَقَّاءُ شَطبة // واسمرُ عسَّال وأبيضُ قاطعُ)]. وفي المعنى ذاته قال القاضي الطائي:[(لقد سَمَحَ الزَّمان لكُم بِقِرْمٍ // لَهُ فِي خِدْمَةِ الإسلامِ بِرُّ)(هو الشَّهمُ البرونيّ ذُو المَزَايا // سليلُ المجدِ في الهيجاءِ ذِمْرُ)].
(4) التناص التحاذِوِيّ: وفي هذا النوع من التناص، جلب القاضي عيسى الطائي إلى قصيدته إحدى المقطوعات الشعرية الشهيرة للإمام نور الدين السالميّ وتحاور معها مما زادها رسوخا في ذاكرة القراء ومازالت تتردد أصداؤها في مجالس الأدب العمانيّ والي يقول فيها: (إنَّ للعليا رجال // لم يرعهم ما دهاكا)(بذلوا فيها نفوسا // تصدق القرن العراكا)(أوقفوها في عراص // عاينوا فيها الهلاكا)، إلى فضاء قصيدته، ووضعها في مضمار سباق إبداعي، وحاول محاذاتها دون أن يتخطى الفكرة، وإن كان له السبق في بناء الصورة الشعرية وخاصة في البيت الثاني. وهذه العملية تسمى اصطلاحًا (المجاورة) التي تحفظ لكل قصيدة سِمتها، وتحتفظ بملامح هويتها، وتلتزم بمعمارها الفني مع احتراز الشاعر من الذوبان أو الاستلاب في النص السابق على نصّه. ومنه قول الطائي: [(أقومي إنَّ للعُليَا رِجالًا // لَهُمْ فِي نَيْلِها رَأْيٌ وفِكْرُ)(لَهَا نَحَرُوا الكَرَى بِنِصَالِ عَزمٍ // وفِي وَثَبَاتِها قَصْدٌ و كَرُّ)(إذَا لَيْلُ الغَبَاوَةِ مَدَّ سَجْفًا // جَلَاه مِنْهُمُ عِلْمٌ وخُبْرُ)].
(5) التناص التباعديّ: وفي هذا النوع من التناص يستحضر الشاعر النص السابق على نصه تاريخيا، ويتحاور معه (معنويا)، وإن كان يدور في فضائه إلا أنه دوران تباعديّ، وقد يتحقق على مستوى الشكل، ويتباعد في مضامينه ومن قول القاضي عيسى الطائيّ: [(فَفَرقُ بينَ مَنْ سَاسَ البَرايا // وجَرّبَها ومَنْ فِي النَّاسِ غَمْر)(وفرق بين من إن قال فصلا // وبين فتى به خدع ومكر)(أنا الملكُ القرمُ الذي خضعت له رقاب ملوكٍ طِرنَ وهي خواضعُ)] ويتحاذى معه شكليا وفضائيًا ومنه ما ذكره الصفدي في كتابه: (توشيح التوشيح) (ساس البرايا فسادا // بهمة ما تسامى)(وقد أزال الفسادا // حتى أنام الأناما)(وعاد من كان عادى // في بابه يترامى).
ثانيا – ظاهرة الأونوماتوبيا
تتبدى الأونوماتوبيا في قصيدة (هو الشهم البروني) للقاضي عيسى الطائي على أكثر من محور، وهي تبرز براعته في تحقيق (المحاكاة الصوتية بين الألفاظ ومعانيا)، وفي أكثر من بيت نجح الشاعر في تحقيق ما يسمى بـ(التجانس الصوتي) الذي يؤكد من خلاله على (التطابق الوظيفي) بين موضوع القصيدة وتراكيبها اللغوية وبراعته في توظيف أصوات الحروف للكشف عن جوهر المعاني ودلالاتها، والتوفيق السيمتريّ بين التراكيب الصوتية والانفعالات الوجدانية، وتتبدى الأونوماتوبيا في قصيدة الطائيّ على أكثر من صورة نذكر منها:
(أ) التطابق بين أصوات الحروف وانفعالات الشاعر الوجدانية: حيث نلحظ تدفق العواطف والأحاسيس عبر صوت حرف (الراء) الذي يخرج من "طرف اللسان مائلا قليلا إلى ظهر اللسان مع ما يحاذيه من الأسنان العُليا"، وتكم براعة الشاعر هنا في توظيفه لصوت (الراء) في موضعين، وأعطى مساحة واسعة لعواطفة المتأججة أن تتدفق وتتنقل ما بين صفة (القوة) المستمدة من صوت حرف الراء؛ فيأتي صوتها مرة جهوريًا وأخرى منحرفًا وثالثًا مفخمًا ورابعًا مكررًا. أمَّا صفة (الضعف)، فتأتي من صوت الراء في حالة الترقيق والانتفاخ والاستفال فيستوجب الترقيق الدال على الوهن والضعف، بل وتتأرجح عاطفة الشاعر جيئةً وذِهابًا بين (القوة والضعف)، وأحيانا يوظف صوت الراء في حالة (الإزلاق)، وهو صوت يقع في المنطقة الوسطى ما بين القوة والضعف. ونسوق هنا مثالا تطبيقيا على براعته فيلا توظيف صوت حرف الراء ليتوافق مع المعاني ودلالاتها كما قوله: أقومي إنَّ للعُليَا رِجالًا // لَهُمْ فِي نَيْلِها رَأْيٌ وفِكْرُ)(نَحَرُوا الكَرَى)(اعتورته أجرازٌ وبحرُ).
(ب) توظيف البيان الحركيّ: برع قاضي قضاة مسقط عيسى بن صالح الطائي في توظيف أصوات الحروف لتلعب دور الكاميرا التسجيلية التي توثِّق المشاهد في متتالية تصويرية فذة وتنقل لنا مشاهد الحركة الدينامية داخل القصيدة، بل يمكننا القول إنّ أصوات الحروف في أكثر من بيت وخاصة في البيت الثاني - وهو من عيون الشعر العربيّ من وجهة نظرنا- لعبت دور المعادل الموضوعي للواقع؛ بل أخذتنا إلى أرض المعركة في مقطع بانورامي يصوّر المعركة التي خاضها سليمان باشا البارونيّ مع جنود الجيش الطرابلسيّ في مقاومة جحافل الغزاة الطليان عند نزولهم على شواطيء طرابلس الليبية [(لَهَا نَحَرُوا الكَرَى بِنِصَالِ عَزمٍ // وفِي وَثَبَاتِها قَصْدٌ و كَرُّ)]،(في الهيجاء ذمر).
(ج) التوافق في المعنى بين الألفون والفونيم: وإن كان الفرق بينهما ليس في طريقة النطق وإنما يتحقق على مستوى الدلالة: ومنه تكرار حرف (الميم) مع اختلاف حركته في كلمات:(طعم/الماء/فم/الأسقام/مر) وهي مرصوصة جميعها في بيت واحد من قوله: [(فطَعْمُ الماءِ في الأفواهِ عَذْبٌ // وفِي فَمِ مَنْ بِهِ الأسقامُ مُرُّ)] حيث أدى نطق صوت حرف الميم وحركاته المتنوعة إلى اختلاف الدلالة والمعنى.
ثالثا – ظاهرة الانقطاع والتجاور
في قصيدة عيسى بن صالح الطائي (هو الشهم البرونيّ) رصدنا ظاهرة (الانقطاع والتجاور) واضحة ولا تحتاج إلى تأويل أو استنباط، وربّما يرجع ذلك لوجود طيف سرديّ داخل فضاء النصّ تتنوع موجاته الإشعاعية، على أكثر من صعيد، وكان مصدره المباشر نابع من تنقل الشاعر داخل نسيج السيرة الذاتية للممدوح اقتضته الضرورة التاريخية، وفرضته الذائقة الشعرية التي تمحورت حول نضتال (سليمان باشا البارونيّ)، ومن خلالها توغّل الطائيُّ في عملية السّرد مرتكزًا على خاصيتي: (الوصف الشعريّ) و(الأقصوصة الفنية)، وهذه الأخيرة وإن كان الشاعر لا يدرك تقنيتها، ولا عناصرها البنائية إلا أنه وظفّها داخل فضاء تاريخيّ يسرد من خلالها بطولات المناضل الليبيّ في مناهضة الاستعمار الإيطاليّ لبلاده والذي حلّ ضيفًا(لاجئًا) مضطرًا على سلطنة عُمان بعد أنْ صار مطاردا من سائر الجيوش والحركات الكولونيالية التي وضعت يدها على جغرافية الشرق الأوسط وفق بنود اتفاقية سايكس بيكو والتي تقاسموا بموجبها ولايات الخلافة العثمانية. وفي هذا البيت [(وجدّدْ عهدَ مَنْ سَلَفُوا مُلوكًا // أئمَّتَنا لهم شأنٌ وذكرُ)]؛ففي الشطر الأول يشير إلى سلاطين عُمان من أسرة البوسعيديين، ثم يقطع المعنى وينتقل في الشطر الثاني إلى (الإمامة). وفي بيت آخر يقطع الشاعر اتصال المعنى وتواصل الفكرة، ويجاور بين معنيين متناقضين في قوله:[(فكونُوا عندَه أعوانُ صِدقٍ // ولايأخذْكم حَسَدٌ وكِبْرُ)].
رابعا – ظاهرة النبر والتنغيم
نظم الشاعر عيسى بن صالح الطائي قصيدته على ميزان بحر الوافر الأحادي التفعيلة، ويرتكز في بنيته الموسيقية على تكرار وتسارع تفعيلاته، والتي ينتج عنها تدافع النغمات وتتلاحق كموجات البحر التي تنكسر عند لحوقها بالشاطيء، ومن خلال موسيقاه الخارجية تحدث عملية (النبر والتنغيم)، والتي يعلو صداها من خلال ثبات (العروض والضرب) على مقياس واحد (مفاعل) أو (فعولن). ويتحقق النبر بالضغط على حروف محددة فتبرز مقاطع محددة من النص، وتعلو درجاته الصوتية، ويتعاضد النبر مع التنغيم في التدليل على تنوع المعاني والتأويلات في الجملة الواحدة وهي تنبع عادة من ثلاث مصادر هي: (الحدة والثقل والنبر)، وفي هذا الضرب من البلاغة والصنعة البديعية ما يبين عن افتتانه بحسن الموسيقى وتنغيمها وترنيمها في أذن السامعين ومنه قول الطائي: [(ولا تُحْجِمْ إذَا اسْتَعْصَى جَهُولٌ // تَسَاوَى عِنَدَه زَيْفٌ وتِبْرُّ)]، فضلا عما من ما ابتدعه من موسيقى فيها من حسن التقسيم ما تطرب له الأذن، وتهفو له الروح الظمأى.