في نقد المُثقف.. ونفسي

 

 

 

ريتّا دار

darrita936@gmail.com

 

يقولون عنّي "مثقّفة"، أعتقد لأنّ الكتب كانت وما زالت رفيقتي الدّائمة؛ أو لربّما السّبب قدرتي على منح الكلمات حياة في كتاباتي. لكنّني أعلم يقينًا أنّني لا أُطابق وصف المثقّف الحقيقيّ بمعاييري، فأنا لا أمتلك شجاعته أو قدرته على ترجمة المعرفة لأفعال مؤثّرة.

"الثّقافة ليست اقتباسًا عابرًا، الثّقافة أن تسأل نفسك ماذا ستفعل بما تعرفه".. هذه الجملة البسيطة تختصر صراعًا قديمًا: هل يكفي أن نقرأ ونحفظ ونعرف، أم أنّ المثقّف الحقيقي هو من يحوّل المعرفة إلى موقف، والموقف إلى فعل؟

المثقّف ليس مجرد حافظ للمعلومة ولا جامعًا لكتب على الرّفوف. أن تكون مثقّفًا يعني أن تعيش في حالة قلق دائم تجاه ما يجري حولك. أن تنظر إلى الشّارع، إلى المدرسة، إلى وجوه النّاس المرهقة، وتدرك أنّ الكلمات الّتي في رأسك ليست ملكًا لك وحدك. إنّها أمانة، و"الأمانة" هنا لا تُقاس بعدد الصّفحات التي قرأتها، بل بمدى قدرتك على تحويل وعيك إلى مسؤوليّة.

لكن لنكن جريئين: في عالم اليوم، أصبح لقب "المثقّف" يوزّع كما تُوزّع الألقاب الشّرفيّة. من يكتب منشورًا مطوّلًا على فيسبوك يُعتبر مثقّفًا. من يردّد شعارات مستهلكة يُصنّف مثقّفًا. غير أنّ المجتمع لا يحتاج إلى صدى الأصوات، بل إلى من يملك الشّجاعة لمواجهة نفسه أوّلًا، ومواجهة الكذب السّائد ثانيًا.

المثقّف الحقيقيّ يجرؤ على قول "لا" حين يسود الصّمت. لا يختبئ خلف العبارات الرّنّانة ولا يخاف من مساءلة السُّلطة أو العرف أو حتّى ذاته. مسؤوليته الأولى هي أن يُوقظ الأسئلة النّائمة في ضمير النّاس: لماذا نعيش هكذا؟ من المستفيد من صمتنا؟ كيف يمكن أن نخلق بدائل أكثر عدلًا وإنسانيّة؟

ليس المطلوب من المثقّف أن يكون بطلًا خارقًا، لكنّ عليه أن يختار موقعه. يمكن أن يكون في الجامعة، أو في المسرح، أو في مقال صغير بجريدة. يمكن أن يكون في جلسة عائليّة حين يرفض تبرير الظّلم أو التّمييز. المثقّف لا يُعرّف بمكانه، بل بالجرأة الّتي يضعها في كلماته ومواقفه.

وربّما هنا تكمن أصعب مسؤولياته: أن يبقى صادقًا مع نفسه. ألا يتحوّل إلى موظّف صامت أو مهرّج عند الجمهور الباحث عن التّرفيه. المثقّف الذي يساير الجميع كي لا يخسر تصفيقهم، يفقد روحه قبل أن يفقد قلمه. المجتمع لا يحتاج لمصفّقين جُدد، بل إلى من يضع المرآة أمامه مهما كان الانعكاس قاسيًا وقبيحًا.

قد يقول قائل: "لكنّ المثقّف أيضًا إنسان، له مخاوفه، له لقمة عيشه، كيف نطالبه بكلّ هذا؟"، الجواب أنّ مسؤولية المثقّف لا تعني أن يضحّي بحياته كلّ يوم، بل أن يكون حاضر الضّمير. أن يختار لحظة المواجهة حين يحين وقتها، وألا يساوم على إنسانيّته. يكفي أحيانًا أن يكتب جملة صادقة، أو أن يزرع في عقل طفل فكرة تساؤل، ليكون قد أدّى جزءًا من رسالته.

الثّقافة ليست وسامًا يُعلّق على الصّدر، بل عبءٌ ثقيل. أن تكون مثقّفًا يعني أن تقبل العيش على حافّة التّوتّر بين المعرفة والواجب، بين الرّاحة الشّخصيّة ومصلحة النّاس. أن تكون المثقّف الّذي لا يكتفي بأن يعرف، بل يصرّ على أن يُغيّر.

في داخلي أعرف أنّ مسؤوليتي ليست في تلقين الآخرين، بل في الحفاظ على شرارة السّؤال مشتعلة -في قلبي على الأقلّ- فالمثقّف، في النّهاية، ليس من يملك كلّ الأجوبة، بل من يرفض أن يعيش بلا أسئلة.

وأنا ما زلت أمضي في طريق المعرفة بخطوات متعثّرة، لكنّ الاستمراريّة هي الّتي ستضمن أن أصل يومًا ما.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة