غزة.. 360 كم مربع

 

الطليعة الشحرية

 

 الليبراليون العرب.. كيف حالكم بعد إعلان وزير الخارجية الأمريكي عن الحرب الصليبية من تل أبيب؟ هل من مُؤمن بالحضارة الغربية؟ لمن يدعي أنَّ الغرب تجاوز فكرة الدين وتمَّ فصل الدين عن الدولة فتلك أقذر وأوقح كذبة على مرِّ التاريخ فقد أعلنتها أمريكا صراحة إنها حربٌ دينية فأيها الليبراليون العرب في أي جُحر اختبأتم اليوم؟

ما أشبه اليوم بالأمس تفصلنا 926 سنة عن بدء الحملات الصليبية وإن انتهت على صفحات التاريخ، ولكنها لم تنته من عقلية والنظام المؤسسات الحاكمة في الغرب.

(1)

الصراع

كانت البداية الفعلية للحروب الصليبية في 1095، إثر خُطبةِ ألقاها البابا أوربان الثاني في حشود المجتمعين بمؤتمر ديني في حقول مدينة كليرمونت الفرنسية. تركت تلك الحملات صورةً نمطيةً في تاريخ العلاقة بين الغرب والمشرق العربي على وجه التحديد.

كان للكنيسة الكاثوليكية سيطرة تامةً على مجريات الأمور في أوروبا، عمل رجال البابا على نشر الشائعات، وإيهام الناس بأنَّ الدنيا على وشك الانتهاء، وأن هذا مرتبط بمرور ألف سنة على نهاية عهد المسيح، وهذا مشابه لظهور المنجمين في عصرنا.  فسرت الكنسية الظواهر الكونية والطبيعية بأنها أدلة على اقتراب يوم القيامة، على سبيل المثال ثورة بركان فيزوف في إيطاليا، حدوث الصواعق والفيضانات، فكان لانتشار تلك الشائعات الأثر الواضح في إحداث الهلع في نفوس الأوروبيين، فاستطاع رجال الدين الضرب على هذا الوتر لتحريك النَّاس كما يريدون.

بزغت فكرة الحملات الصليبية للبابا أوربان للتخلص من الصراع الدائم بين فرسان وملوك أوروبا ولقطع دابر التناحر بتوحيدهم على قلب رجل واحد ووعدهم بـ"الجنة الموعودة في أورشليم"!

 

 

 

(2)

ابنة أمريكا المُدللة

اليوم تحرك أمريكا حاملة طائرات لمُساندة ابنتها المدللة إسرائيل، بينما يُجدد "حلف الناتو" الوقوف بجانب تل أبيب، وترسل ألمانيا طائرات مسيرة كل ذلك وأكثر أشبه بحرب بين دول وعند النظر لخريطة قطاع غزّة تكتشف أنَّ مساحته 360 كم مربع من مساحة فلسطين. لماذا تشارك أكبر قوة عظمى في العالم الحديث في حرب إبادة مُمنهجة ضد شعبٍ أعزل وفي أكبر سجن على وجه الأرض.

قطاع غزّة هو المنطقة الجنوبية من السهل الساحلي الفلسطيني على البحر المتوسط؛ على شكل شريط ضيّق شمال شرق شبه جزيرة سيناء، وهي إحدى منطقتين معزولتين (الأخرى هي الضفة الغربية) داخل حدود فلسطين الانتدابية لم تسيطر عليها القوات الصهيونية في حرب 1948، ولم تصبح ضمن حدود دولة إسرائيل الوليدة آنذاك، وتشكل تقريباً 1.33% من مساحة فلسطين.

تدعم أمريكا إسرائيل منذ نشأتها وبشكل أعمى غير محدود ويفسر البعض ذلك إلى الترابط الديني بين الصهيونية والبروتستانتية، أو للتحالف القائم على المصالح الإستراتيجية بينهما، أو لدور اللوبي وجماعات اليهود الأميركيين. وهناك بعدٌ آخر ربما يفسر كل الأسباب السابقة، ويتعلق بحجم شعبية إسرائيل في الولايات المتحدة، والتي تزيد على شعبية الرئيس الأمريكي. كشفت استطلاعات للرأي تجريها مؤسسة غالوب بصورة دورية سنوية منذ 1975 أن شعبية إسرائيل تزيد على شعبية الرؤساء الأميركيين.

وتزيد نسبة تأييد إسرائيل بين الأميركيين هذا العام على نسبة تأييد الأميركيين للرئيس جو بايدن حيث بلغت نسبة التأييد له ولسياساته 53% مقابل معارضة 43%، وفقًا لاستطلاع أجرته شبكة "سي إن إن" (CNN). ولا ننسى ان الانتخابات الامريكية على الأبواب حيث ستكون الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة لعام 2024 في 5 نوفمبر 2024. وقد صرح الرئيس الحالي جو بايدن أنه ينوي الترشح لولاية ثانية، مع نائب الرئيس كامالا هاريس كنائبة له؛ إذاً فدماء شعبٍ أعزل لا ثمن لها في مقابل فترة رئاسية ثانية.

(3)

الصفعة

ذكر المؤرخ وليم الصوري وهو رئيس أساقفة صور ومؤرخ صليبي عاش في صور والقدس، وعين عام 1174 مستشارًا للملك بلدوين الرابع ملك مملكة بيت المقدس في كتابه الحروب الصليبية؛ ذكر بشاعة المذابح الشرسة التي ارتكبها الصليبون لحظة دخولهم بيت المقدس وبالنص قال: "فرَّ الجانب الأكبر من الناس إلى فناء المسجد لوقوعه في مكان قاص، ولكن فرارهم إلى هناك لم يسعفهم بالخلاص، إذ سرعان ما اقتفى تانكرد أثرهم على رأس معظم رجال الجيش الذي اقتحم المسجد وأعمل مذبحة شرسة، وانطلق بقية العسكر يجوسون الديار يبحثون عن ما تبقى منهم وذبحهم ذبح الشياه".

واليوم تتناقل كل وسائل الإعلام العالمية تصريح زير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الذي قال فيه: "هؤلاء حيوانات بشرية، وسنُعاملهم على ذلك الأساس، وقد قطعت عنهم الماء والكهرباء"؛ ولم تستنكر أو تشجب أو تندد أي منظمة حقوقية أو إنسانية أو دولية بالتصريحات. الغرب بكل ترساناته الإعلامية والعسكرية والمدنية الديموقراطية والإمبريالية والليبرالية متواطئون في أكبر عملية إبادة وتهجير في تاريخنا المعاصر صوتًا وصورة وبمباركة كل المتخاذلين والخونة.

(4)

خناجر في ظهر الأمة

لم يغفل أولئك الخونة والمتواطئون مع المحتلين ومن أشهرهم الأفضل بن بدر الجمالي أحد كبار وزراء الدولة الفاطمية بمصر في عهد كل من الخليفة المستنصر بالله؛ وقد أمتلك جيشًا قويًا ولم يشتبك مع الصليبيين، بل تحالف معهم ظنًا منه أنهم حلفاء أوفياء للفاطميين ضد السلاجقة. تلك كانت صور من تاريخ الأمس الغاشم، واليوم تُثير تغريدة الإسرائيلي إيدي كوهين على منصة إكس الكثير من الجدل في الإعلام العربي عندما عرض "توطين الفلسطينيين في سينا مقابل حذف ديون مصر الخارجية، فكروا فيها".  من سيوافق ومن سيرفض عروض الكيان المحتل لا نعلم؛ ولكن هل لنا اعتبار تواطؤ العالم مُقدمة لمحاولات إعادة زرع صفقة القرن مرة أخرى وتمهيد لشرق أوسط جديد.

عندما وقف الرئيس الأمريكي جو بايدن في عام 1986 في مجلس الشيوخ الأمريكي حينما كان عضواً فيه وصرح "لن نعتذر على دعمنا لإسرائيل، فهي أفضل 3 مليارات نستثمرها، وأن لم تكن أمريكا موجودة لكان على أمريكا اختراعها لحماية مصالحها".

كل تلك الشواهد تؤكد أن الحروب الصلبية لم تنته وإن خبت جذوتها، فعندما يقيم المتخاذلون الخونة الدنيا ولا يُقعدونها على روسيا بسبب قطع المياه عن أوكرانيا. وارتفعت أصوات الشجب والندب والتلويح بميثاق اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية حياة المدنيين. كل تلك الأصوات بلعتها مزبلة الإنسانية العنصرية، واختفت بعد قطع المياه عن قطاع غزّة الذي يبلغ 360 كم مربع. ما أسرع الغربي عندما يطالب العالم بحقوق الإنسان والحيوان خصوصًا إن كانوا يتبعون النادي الغربي.

(5)

أوراق التوت

360 كم مربع والتي تشكل 1.33% من مساحة فلسطين عرت العالم ومدعي الحضارة. أسقطت غزّة أوراق التوت التي سترت يوماً البشرية ومُدعيّ المثالية، القوميين والليبراليين والديموقراطيين وصولا للمطلبين.

تتابع أمريكا استراتيجية المحافظين الجدد والتي تحتوي على كثيرٍ من الغرور والرياء والكذب والتي تهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط وتغييره ليتلاءم مع القرن الحادي والعشرين مغلفًا مربوطًا بدعاوي أيديولوجية تتعلق بالديمقراطية، واقتصاد السوق، والديكتاتوريات، والأنظمة المارقة؛ والترويج لحرب العراق خير شاهد. إصرار الولايات المتحدة على تغيير أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة الأميركية تسعى بديموقراطيتها المبتكرة في الشرق الأوسط إلى فرض أوضاع وحكومات صديقة وحليفة خاضعة لها ولإسرائيل كليًا؛ فهل نستبعد دخول إسرائيل جامعة الدول العربية مستقبلًا؟ واليوم وبعد مرور 926 سنة على الحملات الصليبية، ألا يزال هناك من مؤمن بمشروع الديموقراطية وحقوق الإنسان ومنظمات الأمم المتحدة والجامعة العربية؟  

عندما يناضل 360 كم مربع ضد جحافل وحاملة طائرات  Holy War  وترسانتهم الإعلامية ويغمض العالم عينه ويتغاضى ويفتح الأخرى ويشجب ويندب ويلوح بمواثيق الأمم المتحدة ومعاهدات جنيف عند قرص أذن أوكرانيا  فهذه عنصرية فاشية قذرة تطرح حتمية السؤال هل نحن شعوبٌ حُرة؟

ألا يتوجب على العالم وبالأخص دول آسيا وأفريقيا السعي لتأسيس حلف الجنوب الآسيوي الأفريقي وتشكيل منظمات ومعاهدات دولية خاصة بهم على غرار الأمم المتحدة وتشكيل نادٍ متعدد العرقيات بعيدًا عن النادي الغربي أحادي القطب واللون والعرق.