"فأخذهم الطوفان وهم ظالمون"

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

داهم طوفان الأقصى أقاصيهم وهم في غمرة احتفالاتهم وفي سبتهم نائمون وجاوزهم سريعًا، فمنهم الجاثمون ومنهم في غفلة من هول الصدمة "فَهُمْ فِىٓ أَمْرٍۢ مَّرِيجٍ" (ق:5)، والضيف يسجد شكرًا حين الضحى بمغنم الرعب في صفوفهم قبل أن يغنم أفواج أسراهم المشدوهة وكأن بصرها حديد وقطعٍ من معدات الحديد قبيل المغيب، وفر من استوطن منهم غصبًا بجلده راكضًا غير بعيد ومهرولًا وزاحفًا ومن ورائهم القساورةَ ترهقهم "كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ" (المدثر:50).

كُنت أنوي الكتابة في شأنٍ آخر حتى فجر يوم السبت الذي قلب كل الموازين بما فيها المقال وكيف لا يفعل، فذاك مقامٌ يحتمل التأجيل ولا يحتمله هذا المقام، وأتفكر في تعاطي المحتل مع القدس ونابلس وأريحا وجنين واللد والرملة والجليل لأجده ملخصًا في خلطاتٍ تاريخيةٍ ساخرة ممجوجة ومنتحلةً سافرة عظيمة الزيف والتزوير بعظم الآلة العسكرية والإعلامية المصاحبة التي لم تتمكن من تقعيد السلام منذ سبعة عقود، فمن الغريب جدًا اعتبار غَصبة الاحتلال حقًا تاريخيًا لهم كما يستعصي على العقل البسيط تصديق ضلالة حقهم في أرض الميعاد العائد لألفي عام مضت قائمًا إلى اليوم، وإن اختلف على المكان شعوب وحضارات متعددة مع العلم أن الصليبيين الأوروبيين مكثوا في فلسطين 88 عامًا، ولكن مع ضبابية الحقوق وتعاطفًا مع المستعمر نجدهم لا يطالبون بشيء، وإلا لكان لروما حقٌ في دولة الغال الأبعد عهدًا من فرنسا، وللعرب الأكثر تأثيرًا حقوق أثرية إرثية في الأندلس الإسبانية.

لكن الأمر ليس كذلك بعد استتباب السلام على الأقل من حيث المنطق، إلا أن إضفاء الصفة الدينية على الأمر أعطى المحتل شيئًا من المسحةِ الإبراهيمية الممزوجة بالافتئات التاريخي من حيث استرداد الحق ولو بالقوة المتعسفة وتغيير الحقائق وتلفيق الأدلة حتى أعتبر المحتل نفسه صاحب حقٍ شديد وبات صاحب الحق الأصلي والمدافع عن أرضه وعرضه إرهابيًا بحسب ما تحوره أدواتهم الإعلامية المفروضة هي الأخرى قسرًا على عقول الشعوب الغربية المتبلدة في فقاعة عملاقة من التضليل.

"القانون الدولي خِرقة بالية" كما قال بن جوريون (أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال الإسرائيلي).

عمومًا إذا كانت المسألة تؤخذ باعتبارات الحقوق التاريخية فلم وقفتْ عند ألفي عام فقط؟! ومن باب أولى العودة ألفًا إضافية فتصبح فلسطين للكنعانيين العرب، فهم أهل المكان وأصحاب الحق الأصيل، وهم المقاومون الآن قبل المحتل الصهيوني منتحل القومية اليهودية ومايشيعه من أساطير التناخ في حق العودة للمختار سامي العِرق.

يكفر مؤرخوهم بأسطورة وثنية الأرض ووثنية العرق وهما المؤسِستين الرئيستين للفكر الصهيوني الحديث علمًا بأن اليهودية الحق في العالم كله تقر بأن اليهودية ليست قومية ولا عرقية بقدر ماهي شريعة لا تستبيح الدماء والحقوق كما تحاول الصهيونية تأصيل هذه الثقافة في الوعي العام العالمي وهذا وكذلك قال شلومو ساند في كتابه "اختراع الشعب" كما لا يوجد عالم أو باحث أو مؤرخ أثبت بحثيًا ما تحاول الصهيونية إثباته باستثناء بعض الأبواق الإعلامية المُغرَّر بها والتي تطالعنا عند اشتداد الكرب ومع الأزمات مستغلةً جهل العامة.

العرق لا يُقدِّس شعبًا والأرض لا تُقدِّس مكانًا وإنما سيادة الشرع والتقوى هما من يُقدِّسان الإنسان والمكان.

هيا بنا نحرك بيدق الأسطورة وننفث فيها الروح، كما فعل إبراهيم في الطير، ونحيي بها الوهم في قلوب تهفو للإستيطان بأرض الأجداد وعيون تذرف الدمع بالقرب من الحائط مع أن هرتزل لم يُعر اهتمامًا بالموقع وليكن أينما كان، ولكن لماذا تلبيس الفكر الصهيوني بالثقافة الدينية يعطيها زخمًا جيدًا في الأحقية؟ لأن فلسطين بها أقدم المدن في التاريخ العالمي وهذا مهم جدًا فيما سيأتي لاحقًا مع التزييف التاريخي مع الأخذ بالاعتبار مقولة جوزيف جوبلز وزير دعاية الرايخ الألماني: اكذب اكذب حتى يصدقك الناس.

قال رئيس وزرائهم نحن اليوم في حرب حقيقية، والحقيقة أننا نشكره على هذا الاكتشاف المميز حيث كنَّا نعتقد ولأكثر من 70 عامًا ماضية بأنهم في سلام مع الفلسطينيين!! لقد صَعق عنصر مفاجأة المقاومة المتحدثين الرسميين في الكيان المحتل حتى أفصحوا عن مكنون أنفسهم من كراهيةٍ وغيضٍ عبر إذاعة "بي بي سي الإنجليزية" وهم يركزون بشدة على كلمة الإرهاب ويعنون بها صراحة المقاومة الفلسطينية صاحبة الحق الأصيل والتي تسعى لتقويض السلام ويعنون به أنفسهم ولكن الصيغة الضمنية للسلام هنا غالبًا ما تكون بصفة الغائب المجهول. وهذا هو ما تسمعه الشعوب الغربية ليلًا ونهارًا حتى صدقوه وقد نعذرهم مع أن العذر بالجهل سذاجة، ولكن كيف لنا أن نعذر حكوماتٍ ورؤساء دولٍ يعلمون كما نعلم الحقيقة بحذافيرها علم اليقين وينتهجون نفس نهج التضليل ونحن نسمع ونرى؟! ثم يبدون تعاطفهم الكالح مع المحتل اللين المسالم، بل ويبادرون بمد يد العون بكل انواع المساعدة والدعم فهل لازلنا كعرب ومسلمين في ريبٍ من أمرنا عن ماهية التدليس والافتراء ومن يناصره؟! ثم يظهر لنا وجهه الآخر الإنساني اللطيف الوديع بغرض الحفاظ على مصالحه المادية وقد باتت النوايا عارية لا مرية فيها ولا تترك مجالًا للشك أو الريبة "لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" (ق:37).

لقد أماطت المقاومة اللثام عم هشاشة جدران الغلاف ذي مظهر الزجر فقط بين ساعة الشروق والفجر، وفجرت مفاجأة عالمية بخواء النمر الورقي القابع على طول الحدود المحتلة وتداعت بعده بالتوالي كل أساطير البيادق المصفوفة وراء جنود الردع الثمانية، وما هي إلا صولة وحومةٍ لجولةٌ أولى يستعاد بها شيء من الحقوق الشرعية المسلوبة التي اغتصبها الاحتلال جورًا وبهتانًا وشرعنها بادعاء حقه التاريخي في ملكيتها ولا يعلم أحد كيف له ذلك، والصواريخ تضيء السماء قبل ضوء النهار وتساير ركب المشاة القساميين الفاتحين بتناغمٍ موزون ومدروس أرهقت به القبة الحديدية، حتى إذا استفاق المحتل من صدمته الأولى أعلن عن رده بـ"السيوف الحديدية"، ولا أعلم ما هي مشكلتهم مع كلمة الحديد وربما لأنهم يستخدمونه بكثرة في حياتهم كالمسورات المحيطة بهم وسجون الأسرى أو ربما يعتقدون أن الله ألانه لهم كما ألانه من قبل لداوود؟!