حيدر بن عبدالرضا اللواتي
لا تستقيم أمور الدول إلا بوجود جهازين رسميين قويين يهتم الأول بقضايا مكافحة الفساد والتلاعب المالي والإداري في المؤسسات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني، فيما يهتم الجهاز الثاني بأمور القضاء والمحاكم لنشر العدالة وحماية حقوق الناس وإرجاعها من المختلسين مهما كانت صغيرة، على أن يعمل بكل شفافية ونزاهة وحياد دون أن يقف مع الشخص المعروف والقوي والغني.
وهنا يتعين على جميع المؤسسات في الدولة أن تتعاون وتتكامل من أجل تقديم العون لهاتين المؤسستين المُهمتين، ومساعدتهما في تقديم المعلومات والحقائق اللازمة تجاه القضايا المُثارة، بهدف نشر الأمن والطمأنينة والسلام بين جميع أفراد وفئات المجتمع وإرجاع الحقوق إلى أصحابها.
ما يدفعنا للحديث عن ذلك هو التقرير السنوي الأخير لجهاز الرقابة المالية والإدارية المعنون "مُلخص المجتمع" لعام 2022 والذي نشر قبل أيام، وتضمن العديد من الموضوعات التي تهم المؤسسات الحكومية العامة والشركات تجاه المخالفات المالية والإدارية والفنية التي ارتكبها بعض العاملين خلال الفترة الماضية سواء من خلال متابعة الجهاز لتلك القضايا والتقارير، أو من خلال الشكاوى والبلاغات التي ترد إليه من البعض، خاصة القضايا التي ترتبط بالإهمال والتلاعب ومخالفة القوانين واللوائح والقرارات الصادرة عن تلك الجهات، والتقصير في أداء الواجبات الوظيفية والمساس بالمال العام وغيرها من القضايا الأخرى.
التقرير الأخير يتناول العديد من المخالفات الإدارية والمالية التي تصل إلى مرتبة الجرائم الجنائية، الأمر الذي تطلب إحالة القضايا إلى الادعاء العام والجهات المعنية الأخرى لجمع الأدلة والاستمرار في معرفة الحقائق والمعلومات والاستدلالات بشأن كل قضية لإحالتها في نهاية المطاف إلى الجهات القضائية وتجريم المخالفين بالإدانة والسجن والغرامة، وإلزام المخالفين بدفع ما عليهم تجاه المخالفات التي ارتكبت من قبلهم.
ووفقًا لبيانات التقرير الأخير، فإنَّ الجهاز تعامل مع العديد من الشكاوى والبلاغات بلغ إجماليها 587 شكوى وبلاغًا، فيما تم رصد 459 حالة تجاوزات إدارية ومالية وقعت في مؤسسات حكومية، بجانب متابعته للعديد من قضايا تظلم الموظفين، وخاصة ممن لا حول لهم ولا قوة أمام سلطة المديرين والمسؤولين، إضافة إلى متابعته لعدة شكاوى وردت إليه تتعلق بتعطيل مصالح المواطنين، وأخرى تتعلق بعدم سلامة إسناد المناقصات العامة بالإضافة إلى عدة شكاوى وبلاغات عن سوء استغلال السلطة. كما تعامل الجهاز مع عدة قضايا تهم الهيئات والشركات والاستثمارات التي تطلبت متابعة الرقابة عليها، خاصة وأن هناك بعض المؤسسات الخاصة تسيئ إلى الاقتصاد المحلي أكثر مما تنفع نتيجة تلاعبها في القوانين واستخدامها الأساليب والحيل في تضخيم ثروتها، وزيادة تحويلاتها المالية السنوية إلى خارج البلاد بعيداً عن أعين الجهات المسؤولة في الدولة، وابتعادها عن دفعها لضريبة الدخل على الشركات، وضريبة الخصم من المنبع وغيرها، الأمر الذي يؤدي إلى افتقاد البلاد للثروات المالية.
ونتيجة لذلك، تمكن الجهاز خلال السنتين الماضيتين من استرداد مبالغ بلغت نحو 97.8 مليون ريال عماني لخزينة الدولة، منها 80 مليون ريال في عام 2021، و17.8 مليون ريال في عام 2022، تختص 14 مليون ريال للهيئات والاستثمارات والشركات العاملة في البلاد. فهناك مؤسسات وشركات تبتعد بصورة أو بأخرى عن تقديم تقاريرها بشأن إيراداتها الحقيقية، الأمر الذي يتطلب اتخاذ الإجراءات المناسبة بشأنها.
ولا شك أن غياب الرقابة على المؤسسات في أي مجتمع في العالم يؤدي إلى تصاعد وتيرة المخالفات المالية والإدارية، خاصة في مجتمعات الدول النامية التي ما زال تُعشعش فيها جرائم الرشوة، والتزوير، والاختلاس، والتعدي على المال العام، واستغلال المنصب وغيرها من الاخلالات الوظيفية الأخرى. بعض العاملين في هذه المؤسسات اعتادوا أن يتلاعبوا في مواجهة ظاهرة التهرب الضريبي من خلال إقامة أنظمة فنية تعمل على عدم اكتشاف الإيرادات الحقيقية لها؛ حيث إن معظم تلك الشركات والمؤسسات تتعامل وتتعاون مع بعضها البعض في تغطية الثغرات القانونية، خاصة تلك التي تتعامل مع مفاصل الاقتصاد الرئيسي في البلاد كشركات الأغذية والأدوية والاستيراد والتصدير والعلاج بالمستشفيات والتأمين والمعادن ووسائل تقنية المعلومات والأنظمة الإلكترونية وغيرها من الشركات.
وأخيرًا.. كُلنا يقين بأن جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة سيُواصل الجهود لسرعة الكشف عن الاختلاسات والتلاعب في المؤسسات والإفصاح عنها لتعزيز التوعية بين المواطنين، ونتمنى أن يتم الإعلان عن المخالفات أولًا بأول دون الانتظار لسنة كاملة، فيما يتطلب من أجهزة الادعاء العام والأمن والشرطة والقضاء والمحاكم سرعة البت في تلك القضايا والتنفيذ على المخالفين ليعيش الجميع في رفاهية وسعادة وطمأنينة، وهذه العملية سوف تؤدي إلى تعزيز مبادئ النزاهة والمساءلة والمحاسبة في المجتمع وتخلق نوعًا من الردع أمام الذين يحاولون نشر الفساد والتلاعب في المؤسسات.