ناصر ابوعون
في دراسة قصيدة "الحبيب الهاجر" للقاضي الشيخ عيسى بن صالح الطائيّ قاضي قُضاة مسقط؛ سنحاول أن نشق طريقًا وسطا ما بين (الأسلوبية) و(البلاغة القديمة)، وهي محاولة لتطبيق المنهج التكامليّ، الذي يرتكز على فكرة أنّ المنهجية عملية دائرية ومتداخلة وليست جامدة، ووسيلة ناجعة لاستقراء النصوص دون التقيد بالقولبة والتنميط الذي يحبس النصوص في إطارات غير مرنة، ويُغلق باب التأويل والاجتهاد في وجه الباحثين عن جماليات الإبداع في سائر أجناسه، ويُوصِد كل المحاور في وجه المسافرين فيما وراء المعاني.
خلف ظلال المنهج
إنّ تطبيق المنهج التكامليّ في دراسة الإبداع الإنسانيّ بمثابة بوصلة تُرشد الباحثين عن الأفكار العميقة التي ينشدها الشاعر وصولا إلى سبر أغوار محيط القصيدة الواسع، والتجديف في قارب البلاغة برؤية واقعية، - ولكن على حذرِ من الانجراف إلى مثلث برمودا التهويل - ومصارعة أمواج الأفكار المتلاطمة وصولا إلى شطآن الحقيقة المتخفية وراء أستار الكلمات الشفيفة، بل هو أداة معيارية مُعِينَة للناقد على اكتشاف المناطق البعيدة وغير المطروقة داخل جغرافية النصوص، واستخراج دُرّها الثمين، واصطياد ما لم تجرحه عين الاعتياد الكليلة عن استكناه الجوهر، والدأب عبر محاولات متتالية لا تهدأ ولا تستكين حتى تتمكّن من وضع يدها على مكامن الدهشة في النصوص، وإثارة عواصف الأسئلة للخروج من جمودية ورتابة الرؤى النقدية المتوارثة والانطباعية الساذجة.
مدرسة الطائي الشعرية
إنّ رائية (الحبيب الهاجر) للقاضي عيسى الطائي من مطلعها إلى منتهاها ليست قصيدة مناسبات اعتيادية، فلم تقرب محرابها الخطابيةُ الجافة، ولم تقتبس الشكل الطلليّ المتوارث في مقدمات القصائد الكلاسيكية، ولم يحشد شاعرنا جواهر الصور البيانية لينثرها على رأس (الممدوح - البارونيّ) - وهو يصافح أكفَّ مستقبليه من كِبار الأعيان ورجالات السلطان السيد تيمور بن فيصل بن تركي (15 أكتوبر 1913 حتى 10 فبراير 1932م) الذين أوفدهم ليكونوا في شرف استقباله- على نحو ما يفعل كثير من النظّامين والمدّاحين في سائر الأعصر والأزمنة، ولم يرصِّص القاضي عيسى الطائيّ – وهو الشاعر المتمرّس بفنون القول - المحسنات البديعية في متواليات موسيقية يُهيّج بها مُهَج المستقبلين، ولم يُركِّبْ أفكاره على صهوة تفاعيل (بحر الكامل) ليباري بها الخطباء والناثرين والشعراء في مضمار الترحيب الذي اصطف في استقبال الممدوح ضيف السلطان وشعب عُمان، ودلف منذ المفردة الأولى إلى غرضه مباشرةً؛ فأبان عن قريحة شعرية تستقي عواطفها من بئر القلب، وتمتح من معين الوجدان، ولم يكن بالمقلد الأعمى، ولا المبتدع الأشقى؛ ولم يسلك في مدرسته الشعرية سُنن مَن قبله حذو النعل بالنعل، -وقد رصدنا أهمّ سمات أسلوبه وملامح التيار الذي يمثله في أكثر من مقالة سابقة- بل نأى بنفسه عن متابعة المُرجفين من أعداء التجديد وهم طائفة تناسلت نطفها وتكاثرت نسماتها منذ نهايات القرن الثالث الهجريّ وأوصدت الباب خلفها في وجه الاجتهاد الفقهيّ والفكريّ، وساروا بالأمة إلى عصور الجمود المعرفيّ والاستبداد على قاعدة {قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ}.
خمسة أفكار في غرض واحد
تنطوي هذه الرائية التي أنشدها القاضي عيسى بن صالح الطائي على خمسة أفكار تحت غرض واحد بعد أن فاض بها وجدانه، عند الإطلالة الأولى للمناضل السياسيّ الليبيّ سليمان باشا البارونيّ مترجلا على سُلّم الباخرة قادمًا من الأراضي الحجازية إلى (مسقط) ليتخذها مأوى وانطلاقة جديدة لتحقيق رؤيته الإصلاحية التي نافح عنها الشطر الأكبر من حياته. وقد استهلّ شاعرنا القاضي قصيدته بـ(التِّرحاب) المعطّر بالبشرى زهوًا بقدوم سليمان باشا البارونيّ على عُمان وهو قيمة عربيّة مازالت متأصلة في التقاليد العُمانية المتوارثة مبتدءًا قصيدته قائلا: [(بُشْرَى فقد وَصَلَ الحبيبُ الهَاجِرُ // مِنْ بعدِ مَا حَنَّتْ إليه ضَمَائرُ) - (وَافَى وقَد وَافَى السُّرورُ يَزُفّه // نحوَ البِلادِ طلائِعٌ وبَشَائرُ) - (تاهَت عُمانُ بهِ فَخَارًا مِثْلَمَا اشْ // تَاقَتْ إليهِ مَحَافلٌ ومَنَابرُ) - (طَارتْ بهِ لِعُمَان وَشْكًا غَيْرَةً // وحَمِيّةً مِنْهُ وحُبٌّ ظَاهِرُ) - (أَهْلًا بِهِ فالنَّاسُ تَرْقُبُ وَصْلَه // شَوقًا وقَدْ شَخَصَتْ إليه نواظرُ) - (وعلت به شرفًا وأشرق نورها // فانجاب عنها جنح ليل عاكرُ) - (أعني سليمان بن عبد الله من // بهر الورى فهو الضياء الباهر)].
ثُمَّ عرج بالسّامعين إلى مدارج الرفعة التي ارتقاها الممدوح سليمان باشا البارونيّ، وأوضح مكانته العلمية، وأشاد بدوره التنويريّ في خدمة الشريعة الإسلامية، ثُمَّ أشار إلى نضاله السياسيّ وسعيه إلى إقامة أول جمهورية في طرابلس الغرب، فعلا صيتُه وساوقت شهرته الآفاق في الوقت الذي كانت ترزح فيه سائر البلدان العربية تحت وطأة الاستعمار ونير الاستبداد، ثم انتقل إلى غاياته العليا في تمثله بالخلفاء الراشدين في إصلاح الدنيا بالدين؛ قائلا: [(ذاكَ البَرُوِنيُّ الذي شادَ العُلَى // فلَه بأقصى الغرْبِ صِيتٌ طائرُ) - (غوّاصُ دَامَاء مُهَذَّبٌ // حَرِبَتْ عليهِ قَبائلٌ وعَشَائِرُ) - (خَدَمَ الدِّيانةَ والعَدَالةَ خِدمةً // فكأنّه عُمَرُ الرَّضيُّ وعامرُ) - (شهمٌ نَمَى من دَوحةِ الشَّرفِ التي // هُو غُصنُها الزَّاكي المَنيفُ النَّاضِرُ)].
أمّا الفكرة الثالثة فقد مثّلت جُنحًا يطير بالممدوح إلى الأعالي، ويصيّره قدوةً تتمثلها الأجيال المتعاقبة من أبناء الأمة التي تأبى الضيم وإن نامت طاوية البطن على حجر الكرامة، وقد استطاع شاعرنا أن يوجز سيرة الباروني النضالية وتاريخه ضد المستعمر الإيطالي بالسلاح حينما أسس (الجيش الطرابلسي)، ونظّم (صفوف المقاومة المسلّحة غير النظامية)، فضلا عن استخدامه سلاح الكلمة بتأسيسه جريدة (الأسد الإسلاميّ)، ومواقفه الخطابية تحت قبّة (البرلمان الطرابلسيّ). وكانت وسيلة الشاعر الطائيّ في التأريخ لشخصية سليمان باشا تتنوّع ما بين الصورة الكنائية المكثّفة والاستعارية التي تتراوح ما بين التجسيد والتشخيص وبراعة التشبيه البليغ. [(كمْ مِنْ جيوشٍ جَرّها وصَواهِلٌ // وَطِئَتْ لَها هَامُ العُدَاةِ حَوَافِرُ) - (وكَتيبةٍ قَدْ لفَّهَا بِكتيبةٍ // في اللهِ لا فِي النَّاسِ فهُو الظَّافِرُ) - (شَهِدَتْ لَه الطَّليانُ مَوقِفَ بَأْسِهِ // للهِ ذَيّاكَ المَقَامُ الشَّاهِرُ) - (نَصَرَ الحَفِيظَةَ جَاهَدًا بِلِسَانِه // وسِنَانِه فهُو الحُسَامُ البَاتِرُ)].
أمّا في الفكرة الرابعة فيعود بنا الشاعر الطائي إلى الفكرة الفلسفية الراسخة التي عجز المتكلمون الماديّون، منذ أيام "ديمقريطس"، وكذلك أصحاب النظريات الفلسفية القديمة والمعاصرة على السواء عن نفيها، ولم يوفّق جهابذة وأساطين المادية الماركسية في نقض غزلها، لأنها في حقيقتها هِبةٌ إلهية؛ وتؤكد أنّ الأصالة والشجاعة والأخلاق (جِينٌ وراثيّ) ينتقل من جيل إلى آخر، وليست فضيلة مستحدثة، ولا مكتسبة بالتدريب؛ بل هي أصلٌ في (نُوَيّة) الخليّة الحيّة التي تحدّر منها الإنسان الأول، ونبتت منها سلالته، ولكنها (رزق إلهيّ) وتنتقل بإرادة إلهية في السلالات بين الجماعات البشريّة إلى هذا ويحجبها الله عن ذاك ولذلك فالبشر متفاضلون. يقول الطائيُّ [(ولقد قَفَا أَثَرًا لأَسْلافٍ له // دَرَجُوا وقَدْ بَقِيَ الثَّنَاءُ العَاطِرُ) - (بَلْجٌ وأَبْرَهَةُ الهِجَانِ وأَفْلَحٌ // وسَلِيلُ عَوْفٍ في الهِيَاجِ قَسَاورُ) - (فَهُمْ بَنَوا للدِّينِ مَجْدًا شَامِخًا // وهُمُ بُدُورٌ في الظَّلامِ سَوَافرُ) - (فاللهُ يَشْكُرُ فِعْلَه ويَمُدُّهُ // بالعَونِ فَهُوَ لَهُ المُعِينُ النَّاصِرُ) - (قَدْ عَاشَ لا هَمٌّ لَهُ إلَّا لِكَي // تَعْلُو لِدينِ المُسْلِمينَ شَعَائِرُ) - (دُمْ يَا سُليمانُ بنِ عَبْدِ اللهِ مَنْ // صُورًا يُؤَيِّدُكَ الإلهُ القَادِرُ)].
ويختتم القاضي عيسى بن صالح الطائيّ قصيدته الترحيبية بالمناضل الليبيّ سليمان باشا البارونيّ في عُمان بإسباغ المديح على سلاطين عُمان (أسرةِ البوسعيديين) سادةِ (الأرض وحُكّامها وأصحاب النفوذ على أقدَمِ أرض مأهولة بالسكان والتي يعود تاريخها إلى 106 آلاف سنة) في المنطقة العربية. وهذه الأبيات بلا ريبٍ ولا مُدارةٍ تؤكِّد الهويّة السِّياسية للشاعر؛ حيث توضّح إيمانه المطلق بالسلطة الدنيوية ومُناصرته للحُكّام السلاطين الأصليين في زمن كان (نظام الإمامة) في المنطقة الداخلية من عُمان يُصارع من أجل البقاء، وأنصاره لا يعترفون بأنّ الزمن تجاوز فكرة الخلافة الراشدة التي كانوا يسعون لإحيائها. يقول الشاعر: [(وَلَقَدْ حَلَلْتَ جِوَارَ مَنْ سَادَ الوَرَى // "تَيمُورُ" مَنْ هُوَ لَيْثُ غَابٍ خَادِرُ) - (نَجْلُ المُمَلَّكِ "فَيْصَلٍ" مَنْ كَفُّهُ // لِلْمُعْتَفِينَ سَحَابُ فَضْلٍ مَاطِرُ) - (مِنْ آلِ سُلْطَانِ الأُلَى شَادُوا العُلَى // فَلَهُم مَنَاقِبُ كَالنُّجُومِ زَوَاهِرُ) - (مِنّي السَّلامُ عَلَيْكَ وَهُوَ تَحَيَّةٌ // مِنْ ذَا النِّظَامِ بِهَا تَجَلَّى الآخِرُ)].
الأساليب البلاغية في القصيدة الطائية
إنّ استراتيجية التحليل النقدي المستخدمة في قراءة قصيدة (الحبيب الهاجر) لقاضي قضاة مسقط الشيخ عيسى بن صالح الطائي تسعى في غايتها الكبرى إلى استكناه الأفكار العامة المتضمنة في تلابيب الأثواب البلاغية التي برع الشاعر في بنائها عبر تراكيب جديدة – وإنْ كانت مادة ألفاظها تمتح من معاجم اللغة القديمة-، والغوص فيما وراء المعاني التي تتخفّى خلف الصور الشعرية الطريفة، وتتوسّل بأدوات البلاغة القديمة، في محاولة جادة لاكتشاف الجذور العميقة للأسلوبية تأكيدًا على وجود وشائج قربى بين (علم البلاغة القديم) و(الدراسات الأسلوبية الحديثة)، وتتحقق الدينامية في استكشاف المناطق المجهولة داخل القصائد عبر التشابك بين العلمين على أرضية المنهج التكامليّ، عبر التوفيق بين (معياريّة) علم البلاغة والخضوع لقوانينه، والامتثال لقواعده الصارمة و(الوصفيّة) المتحققة من الأسلوبية التي تسهم في استقراء النصوص بحثًا عن الخصائص المشتركة. وسنحاول هنا البحث عن الأساليب التي اعتمدها الشاعر في بناء قصيدته، وِفق رؤية الناقد (فالح الحجية)، وتتمثل في مجموعتين: الأساليب (التعبيرية) والأساليب(التجريدية)، ومعاذ الله أن نقول إنّ الشاعر تقصّد استخدام هذه الأساليب عن رؤية نقدية سابقة لعصره، وإن ما نفعله هنا هي محاولة بحثية لتطبيق النظريات النقدية على إنتاج الشاعر لعلنا نصل إلى التوفيق بين علم البلاغة القديم والنظرية الأسلوبية الحديثة.
أولا – الأساليب التَّعبيريّة
في هذه القصيدة تتنوّع الأساليب التعبيريّة وتتعدد على أربعة مستويات بداءة بالمستوى (الإيقاعيّ) الذي يوظّف الإيقاع الداخلي، داخل معمار القصيدة ثم توظيف المستوى (الدراميّ) الذي يشتغل على التنقل بين مستويات وطبقات لغوية متعددة تتحاور فيها الأصوات وتتجاور، وتتنوع ما بين (المنولوج الخافت) والذي تبدّى في حوار الشاعر مع ذاته داخل بهو النصّ و(الديالوج) في تحاوره مع الآخرين. ثم الاشتغال على الأسلوب (الدلاليّ) عبر توظيف الرمز، والإشارات المرجعية التراثية، ثم الاتكاء على الأسلوب (الحسيّ) وهو السمة الغالبة داخل القصيدة حيث يعلو صوت (الإيقاع).
(أ) الأسلوب الإيقاعيّ
في هذه القصيدة والتي أنشدها الشاعر وسط جموع المستقبلين من الأعيان وكبار رجال الدولة ولفيف من الشعراء والأدباء احتفاءً بضيف عُمان سليمان باشا البارودي ساعة نزوله من سطح الباخرة في ميناء مسقط، نعثر على براعة بادية في الاتكاء على الإيقاع الداخلي، كأداة للتأثير في السامع والقاريء وقد ظهر على صورتين: (إيقاع نظمي)، و(إيقاع بلاغي). ففي الصورة النظمية نعثر على ثلاث تقنيات إيقاعية تتبدّى بصورة حديّة وتعتمد على (التقطيعات المتساوية للجمل والتفاعيل)[ مِنْ آلِ سُلْطَانِ الأُلَى شَادُوا العُلَى] [وعلت به شرفًا وأشرق نورها/ في اللهِ لا فِي النَّاسِ/ فَهُمْ بَنَوا للدِّينِ مَجْدًا شَامِخًا // وهُمُ بُدُورٌ في الظَّلامِ سَوَافرُ]، وبذل طاقة فسيولوجية وافرة لإظهار (النَّبر) مصحوبًا بنشاط زائد تقوم به جميع أعضاء النطق، في عمليات الوقف والوقف والوصل أثناء عملية الإلقاء في حضرة الجمهور[الحبيبُ الهاجرُ/ السرورُ يزفُّهُ/ وَشْكًا غَيْرَةً وحميةً/ شوقًا وقد شخصت إليه نواظرُ/وسليلُ عوفٍ في الهياج قساورُ] والتوظيف المثالي لـ(أصوات الجمل) صعودا وهبوطا [وكَتيبةٍ قَدْ لفَّهَا بِكتيبةٍ // في اللهِ لا فِي النَّاسِ فهُو الظَّافِرُ].
(ب) الأسلوب الدِّرامِيَ
عند ولوج القاريء إلى قصيدة (الحبيب الهاجر) للقاضي عيسى الطائي سيفاجيء ببراعة لغوية نادرة، مكّنت الشاعر من التنقل بأريحية بين طبقات لغوية متعددة، وفضلا عن التصوير المشهدي، والبناء الدراميّ المتخيل نعثر على أكثر من صوت داخل المتن وهذه الأصوات تتجاور تارةً وتتحاور تارةً أخرى وتتنوع ما بين (المنولوج الخافت) والذي تبدّى في حوار الشاعر مع ذاته داخل بهو النصّ [فاللهُ يَشْكُرُ فِعْلَه ويَمُدُّهُ // بالعَونِ فَهُوَ لَهُ المُعِينُ النَّاصِرُ) - (قَدْ عَاشَ لا هَمٌّ لَهُ إلَّا لِكَي // تَعْلُو لِدينِ المُسْلِمينَ شَعَائِرُ، وعلى المنحى الآخر يظهر (الديالوج/ الحوار) في تحاور الشاعر ومخاطبته للممدوح [دُمْ يَا سُليمانُ بنِ عَبْدِ اللهِ مَنْ // صُورًا يُؤَيِّدُكَ الإلهُ القَادِرُ [مِنّي السَّلامُ عَلَيْكَ وَهُوَ تَحَيَّةٌ // مِنْ ذَا النِّظَامِ بِهَا تَجَلَّى الآخِرُ].
(ج)الأسلوب الدِّلاليّ
يقينًا فإن الشعر عدوٌ لدود للمباشرة، ولا شعر بدون مجاز ولا رؤية، ولا إبداع خارج القولبة إلا بمصفوفة رموز يبتدعها الشاعر ليحيل أفكاره إلى تصورات تنتشل القراء والسامعين من الحسيّ المادي إلى المجرد الفلسفيّ وهذه الخاصية ليست خكرا على شعراء الحداثة وما بعدها – وفي اعتقادنا – فإنّ أبا نؤاس وأبا تمّام أكثر حداثوية من شعراء يرتدون بُردة الشعر في القرن الحادي والعشرين. وفي هذه القصيدة نجد الشاعر عيسى بن صالح الطائي يزاوج بين الصورة الشعرية والرمز في أكثر من بيت، ويُعلي من شأن الرمز ليكون دالا على سمات الممدوح فلا يلقى القاريء عناءً في استكناه معناه ودلالته كم في قوله:[فانجاب عنها جنح ليل عاكرُ] [شهمٌ نَمَى من دَوحةِ الشَّرفِ التي // هُو غُصنُها الزَّاكي المَنيفُ النَّاضِرُ].
(د) الأسلوب الحِسيّ
وفي هذا النوع من الأساليب يعتمد الشاعر على الصور الشعرية المشتقة من الحواس الخمس، في الكشف عن أفكاره، وشحن المفردات بطاقة عاطفية أكبر تستطيع أسر السامعين، وتوجيه دفة وجدانهم إلى المبتغى الذي يتغيّاه، ومن ثَمَّ كان عليه أن يحشد رزنامة من الصور الشعرية؛ فأمّا الصورة (اللونية) فنعثر عليها في أربعة مواضع وكان (التشبيه) هو السمة الغالبة عليها مثل قول الطائيّ:[جنح ليل عاكر/ دوحة/ غصنها الزاكي/ بدور في الظلام]، أمَّا الصورة (الشمية) فنعثر عليها في موضوع واحد فقط في قوله: [هُو غُصنُها الزَّاكي المَنيفُ النَّاضِرُ]، وأمّا الصورة (الحركية) فكانت هي الأبهى والأكثر دلالة ودراميّة وتمثلت في قوله:[كم من جيوشٍ جرّها وصواهلُ // وطئت لها هامَ العُداة حوافرُ]، وأمّا الصورة (السمعية) فنعثر عليها في بيت واحد فقط يصور فيه شاعرنا الممدوح وسط ميادين القتال مقاوما الاحتلال الإيطاليّ في ليبيا بالكلمة والسيف في قوله:[(بِلِسَانِه // وسِنَانِه فهُو الحُسَامُ البَاتِرُ)]، وفي الأخير تظهر صورة (الرؤية العينية) في قوله: [(بُشْرَى فقد وَصَلَ الحبيبُ الهَاجِرُ // مِنْ بعدِ مَا حَنَّتْ إليه ضَمَائرُ) - (وَافَى وقَد وَافَى السُّرورُ يَزُفّه // نحوَ البِلادِ طلائِعٌ وبَشَائرُ)].
ثانيًا: الأساليب التجريدية
يقول ابن الأثير في كتابه: "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" (ص:14) في التجريد "تأملته فوجدت له فائدتين: إحداهما أبلغ من الأخرى: فالأولى طلب التوسع في الكلام، فإنه إذا كان ظاهره خطاباً لغيرك وباطنه خطاباً لنفسك فإن ذلك من باب التوسع، وأظن أنه شيء اختصت به اللغة العربية دون غيرها من اللغات. ومنه قول شاعرنا عيسى بن صالح الطائيّ: [(وَلَقَدْ حَلَلْتَ جِوَارَ مَنْ سَادَ الوَرَى // "تَيمُورُ" مَنْ هُوَ لَيْثُ غَابٍ خَادِرُ) - (نَجْلُ المُمَلَّكِ "فَيْصَلٍ" مَنْ كَفُّهُ // لِلْمُعْتَفِينَ سَحَابُ فَضْلٍ مَاطِرُ) - (مِنْ آلِ سُلْطَانِ الأُلَى شَادُوا العُلَى // فَلَهُم مَنَاقِبُ كَالنُّجُومِ زَوَاهِرُ)]، وهذا المعنى يُحيلنا إلى التأكيد على فكرة مساندة الشاعر لسلاطين عمان ونفي ما روجه الوشاة عن انتمائه ومساندته لنظام الإمامة الذي كان يصارع من أجل مقاسمة سلاطين حُكم البلاد والعِباد دون الاستناد إلى أيّ شرعية تسوِّغ له السعي وراء هذا الهدف. وأمّا الفائدة الثانية من التجريد: وهي الأبلغ وذاك أنه يتمكن المخاطب من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه، إذ يكون مخاطباً بها غيره، ليكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقوله غير محجور عليه".[(ولقد قَفَا أَثَرًا لأَسْلافٍ له // دَرَجُوا وقَدْ بَقِيَ الثَّنَاءُ العَاطِرُ) (فَهُمْ بَنَوا للدِّينِ مَجْدًا شَامِخًا // وهُمُ بُدُورٌ في الظَّلامِ سَوَافرُ) - (فاللهُ يَشْكُرُ فِعْلَه ويَمُدُّهُ // بالعَونِ فَهُوَ لَهُ المُعِينُ النَّاصِرُ) - (قَدْ عَاشَ لا هَمٌّ لَهُ إلَّا لِكَي // تَعْلُو لِدينِ المُسْلِمينَ شَعَائِرُ)].