حمود بن علي الطوقي
عندما تلقيتُ دعوة من الأستاذ خليل الخنجي لزيارة مركز الأمانة التابع للإرسالية الأمريكية ومقره ولاية مطرح، لم أتوانَ عن تلبية الدعوة لمعرفة المزيد عن هذا المركز؛ حيث الذاكرة العُمانية تشير إلى أن هذا المركز تأسس في القرن الماضي، وكان يهدف إلى تنظيم برامج تثقيفية لتعريف العُمانيين بالثقافة الغربية، لكن في محيطه الداخلي كان يعمل على نشر الديانة المسيحية والتبشير بها، وتأثرت بهذه الحركة أسر عمانية لا يتعدى عددها قبضة اليد الواحدة، ولكنها عادت إلى دينها الإسلامي فيما بعد.
هذا المركز قديم ومارس أدوارًا مختلفة ضمن أهدافه الرامية كقوة ناعمة لنشر الثقافة الغربية على وجه الخصوص والديانة المسيحية بوجه عام.
طبعا أصبح المركز الآن يعمل تحت مظلة الحكومة وتحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كما ذكر لنا مستر جوستين مايرز المدير التنفيذي للمركز الذي استقبلنا بمرح وبفرح، مُعربًا عن سروره بهذه الزيارة التي وصفها بأنها تؤكد أهمية التعايش السلمي الذي هو سمة يتصف بها شعبنا على مدى التاريخ.
مركز الأمانة الذي يقع في مدينة مطرح عبارة عن مؤسسة غير ربحية وتأسس في نهاية القرن التاسع عشر مع وصول اثنين من أطباء الكنيسة البروتستانتية من الولايات المتحدة الأمريكية إلى مسقط. ومع وصولهم واستقرارهم في مسقط تأسست على يد الطبيبين، مراكز طبية في كل من ولايتي مسقط ومطرح وذلك في منتصف القرن الماضي. كما تمَّ في ذات الفترة تأسيس مدرسة الأمانة في مسقط القديمة.
وفي خمسينيات القرن الماضي تم تشييد مقر المركز الحالي الذي يقع في ولاية مطرح كسكن للدكتور طوماس الذي وصل صيته كل أرجاء عمان وبرفقته الدكتور بوش واللذيْن كانا يعملان في مستشفى الرحمة في مطرح.
توقفت عند مستشفى الرحمة الذي يعد أول مستشفى بُني في سلطنة عمان وظل يعمل حتى بداية عصر النهضة المباركة؛ إذ لم يكن في البلاد في تلك الفترة سوى 3 مستشفيات وأهم هذه المستشفيات مستشفى الرحمة. هذا المستشفى كان يمثل مرحلة مهمة، وبقرار غير مدروس تم عرض المستشفى للبيع ونودي في مزاد ليتم بيع أهم مستشفى يمثل مرحلة مهمة من تاريخ عُمان الحديث. تم بيع المستشفى بدلا من المحافظة عليه، وهذا الأمر أثار استياء عدد كبير من أبناء عمان الذين ارتبطوا بهذا المستشفى ارتباطًا وثيقًا. وأذكرُ في بداية عملي في الصحافة أني أجريت استطلاعًا صحفيًا عن سبب بيع المستشفى ولكن كانت الردود غير مقنعة وكنت وقتها أقول لو بقي المستشفى لكان الآن مزارًا لطلبة الطب ولتحول إلى معرض تُعرض فيه قصة الحركة الطبية في عُمان والأدوات التي كانت تُستخدم للتداوي بإشراف الطبيب توماس ورفاقه.
مركز الأمانة الذي تأسس ليكون مقر الإقامة للطبيبين توماس وبوش، ظل صامدًا حتى الآن ليكون بمثابة شاهد على الحركة الطبية لمستشفى الرحمة، والحمد لله أنه ظل حتى الآن ولم تطله فكرة البيع كما حصل لمستشفى الرحمة الذي بيع بثمن بخس في مطلع الثمانينات من القرن الماضي.
أعود للحديث عن مركز الأمانة الذي جرى له تطوير في هيكله المتهالك ليقاوم للبقاء بشكله الحالي؛ حيث وضع المدير التنفيذي مايكل بوس الذي جاء للعمل في السلطنة بهدف المحافظة على شكله القديم مع وضع بعض اللمسات الجمالية للمركز.
المركز الذي كان يمارس خلال فترة من الزمن دعوات تبشيرية توقف مع تولي السلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- الحكم؛ حيث أمر بعدم ممارسة أي نشاط تبشيري للديانة المسيحية ليظل مركزًا ثقافيًا يعمل بصفة قانونية تحت مظلة الحكومة وبإشراف مباشر من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في السلطنة. هذا القرار الحكيم أعطى للمركز مكانته كوجهة ثقافية تعمل في الضوء بهدف تعزيز دور السلطنة الريادي في التسامح والتعايش السلمي الديني بين جميع ومختلف الأديان والثقافات. ومما يثلج الصدر أصبح المركز الآن- ضمن أهدافه- يقدم العديد من البرامج الثقافية منها على سبيل المثال لا الحصر حسب ما ذكر لنا المدير التنفيذي للمركز أن من أعمال المركز جلب مجموعات مختارة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة بهدف إطلاعهم على تجربة السلطنة في مجال التسامح والتعايش الديني وكذلك تعريفهم بالدين الإسلامي الحنيف. كما يقوم المركز بجلب مجموعات متنوعة من دول أفريقية وآسيوية تهدف إلى إقامة حوار عن التعايش السلمي بين الأديان، وكذلك جلب مجموعات من طلبة الجامعات والكليات الأمريكية والأوروبية للتعرف على السلطنة كدولة رائدة في مجال التعايش.
واستحضر هنا أحد أهم المبادرات التي حملت اسم السطان الراحل وهي مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني الذي دشن في العام 2019 بالعاصمة الإندونيسية جاكارتا، هذا المشروع العالمي الذي يحمل رسالة عمان حول التعايش بين الأمم والشعوب سعى إلى ترسيخ "رسالة الإسلام من عمان"؛ لتنطلق من عمان وتنشر القيم في مختلف ربوع العالم، هذه الرسالة العمانية والتي جابت أكثر من 120 مدينة وعاصمة عالمية وهي تبرز مظاهر التسامح العماني والتي تنطلق من خلال ثلاثية المعاني التي تؤمن بها السلطنة وهي: "التسامح والتفاهم والتعايش"، ومن خلال هذه الثلاثية المتلاحمة جابت هذه الرسالة الإسلامية من عمان بإشراف معالي الدكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينية وفريقه أقطارًا تمد يدها للعالم وتبني جسورًا للتواصل الحضاري والإنساني تدعو العالم إلى نشر المحبة والوئام ونبذ الطائفية.
بهذا الفكر المستنير تحصد الآن سلطنة عمان محبة الشعوب وأصبحت عمان الدولة النموذجية وتحظى بتقدير العالم وتشير التقارير الدولية إلى مدى تقدم السلطنة في نشر قضايا التسامح بين الشعوب. وقد أكد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- في خطابه التاريخي الأول، على المضي قدمًا على خطى السلطان الراحل، مشددًا على الثوابت القائمة على التعايش السلمي بين الأمم والشعوب وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام سيادة الدول وعلى التعاون الدولي في مختلف المجالات.
واستذكر هنا خطاب المغفور له والدنا الراحل السلطان قابوس- طيب الله ثراه- أمام مجلس عمان عام 2012: "أما سياستنا الخارجية فأساسها الدعوة إلى السلام والوئام والتعاون الوثيق بين سائر الأمم والالتزام بمبادئ الحق والعدل والإنصاف وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير وفض المنازعات بالطرق السلمية وبما يحفظ للبشرية جمعاء أمنها واستقرارها ورخاءها وازدهارها".