"الشورى".. شوران

 

مسعود أحمد بيت سعيد

masoudahmed58@gmail.com

 

نهاية أكتوبر المقبل سيقف الناخبون بهمومهم وحساباتهم أمام ضمائرهم في اختيار أعضاء دورة برلمانية جديدة، وهو الاستحقاق الأول من نوعه في ظل العهد الجديد، وقفة جديدة يعبروا فيها عن إرادتهم الحرة لاختيار ممثليهم في مجلس الشورى دون إكراه، وإن كانت طرق الإكراه ووسائله لم تعد تقتصر على الإكراه المادي الذي يفهمه العامة بطريقتهم الخاصة؛ حيث تمارس التقاليد نوعًا من الإكراه المعنوي لجهة التأثير على القناعات، وبمقاييس قوانين التطور التاريخي فإنها تحد من تقدم التجربة وأدائها وفعاليتها الوطنية.

لذا تظل الحاجة إلى تأطير العمل الوطني على أسس حداثية بعيدًا عن التكوينات ما قبل الدولة الحديثة قضية جوهرية، بحيث تتمكن الأجيال القادمة التي يُناط بها بناء عُمان الجديدة المُزهِرة في عصر الثورة الرقمية الخامسة والذكاء الاصطناعي والإنتاج المادي والمعرفي الذي أصبح فيه العالم في متناول اليد، من امتلاك كل أدوات عصرها وتُنفَّذ بوسائل عصرية إلى المستقبل المشرق.

يُقال إن توفير المأكل والملبس والمسكن شرط لازم لممارسة النشاط السياسي، والعمل البرلماني عمل سياسي بامتياز، ولا يمكن تصور تقدم حقيقي دون حياة برلمانية سليمة حتى في ظل عدم اكتمال كافة مقوماتها، بحيث تتحول إلى رافد من روافد التقدم الاجتماعي، ودون ذلك يفقد كل منجز وطني قيمته وأهميته. ومعروف علميًا أن طريقة عيش الإنسان هي التي تحدد طريقة تفكيره وليس العكس، بهذا المعنى فإن استقلالية الآراء الفردية وتحديد خيارتها، يسبقه توفر شرط موضوعي حتى يستطيع ممارسه قناعته المستقلة، وبمعزلٍ عن هذا الشرط تُصبح الإرادة الفردية خاضعة للأهواء، ويمكن توظيفها لخدمة الأجندة الخاصة.

في المرحلة الإقطاعية، كان الفلاحون الأقنان يشكلون الأغلبية وكان الاقطاعيون يستخدمون أصواتهم للوصول إلى المجالس التشريعية، وسن التشريعات التي تحمي مصالحهم، والذي لا يستجيب لرغبتهم يُطرد ويتشرَّد هو وأسرته متحولًا إلى متسول، وهذه ظاهرة حقيقية في التاريخ البشري، ومنها تفشّى الانحطاط الخُلقي والفكري والسياسي.

فما الأسس والمعايير التي تحدد اختيار المُرشَّح لعضوية البرلمان؟ هل المعيار القبلي أم المناطقي أم المذهبي؟ أم المصالح الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها؟ وعلى أيهما يمكن تطوير تجربة ديمقراطية عصرية؟

إن رصد ظاهرة الشورى وتفاعلاتها موضوع يستحق المتابعة والمراقبة والاهتمام، ويعكس في جوهره درجة تطور الوعي الاجتماعي وتشكُّل مفاتيح أولية لفهم جزء مهم من تركيبته الاجتماعية الثقافية والنفسية، وما إذا كان الموروث الشعبي التقليدي هو موجه وحيد لمساراتها وسياقاتها العامة؟ أم أن حجم الحشد والتعبئة مسألة خاضعة لديناميكية داخلية؟ أم أن درجات الوعي المتفاوت قد فرضت طرقًا محددة للتعبير عن الخيارات الاجتماعية؟ أم أن الأمر بخلاف كل ذلك؟ وكيف يطفو الجانب السلبي من الإرث التاريخي ويأخذ كل هذا الحيِّز من الاصطفاف في بعض المحافظات؟ ويبقى السؤال الأكثر أهمية: هل فشلت المؤسسات العامة في تكوين شعور وطني متجانس بنظرته وأحلامه حيال معضلات واقعه؟

على كل حالٍ.. فإنَّ للمجلس صلاحيات تشريعية ورقابية جيدة، وما تبقى منها يُمكن استكمالها في مجرى التطور، وهي مهمة الأعضاء أنفسهم. وتبقى مسألة أخرى مهمة لا بُدّ من الإشارة لها؛ وهي ضرورة تعميق ثقافة التعاون الخلّاق والحوار الديمقراطي بين جناحي السلطة التشريعية المتمثلة في مجلسي الشورى والدولة؛ بصرف النظر عن آليه اختياره والذي يبدو أكثر فاعلية وأقل مزايدة وخضوعًا لضغط الرأي العام وربما للخبرة كذلك دورها، وهذا يُمكِّنُهُ من رؤية المشهد بهدوء وبنظره شمولية أوسع.

ومن هذا المنطلق، فإنَّ تكاملهما يصب في المصلحة العامة ويحفظ التوازن ويُجنِّب الانزلاق في الموافقة أو الرفض لأي مقترح قبل أخذ الوقت الكافي من الدراسة العلمية المستفيضة، ومن الناحية العملية فإنَّ الانسجام المطلوب يُغطّي جوانب النقص الذي يجد تعويضه في الآخر؛ طالما تجسّد ذلك- بحسب النظام الأساسي للدولة- في كيان واحد هو مجلس عُمان، ونأمل أن تكون المرحلة المُقبلة مرحلة عطاء وإنتاج تشريعي واقتصادي يُلبي تطلعات المواطنين نحو مستقبل أفضل.