الأُسس الأربعة للثقافة التنظيمية

 

د. صالح الفهدي

قال لي أحد المسؤولين في إحدى الوحدات: بمجرَّد أَن تكتمل أَتمتة النظام- أي أن يكون إلكترونيًا- سيختفي التعقيد. قلت له: اعذرني فالأتمتة ليست إلّا جزءًا من الحل المفترض للتخلُّص من التعقيد، أمَّا الحل الجذري فهو تغيير الثقافة السائدة في الأجهزة الخدمية؛ فبعض الجهات يتوفر لديها النظام الإلكتروني ولكنها نقلت ما كانَ في الورق وحوَّلته دون تمحيصٍ وإيجازٍ إلى النظام الإلكتروني، فلم تفعل سوى أنها نقلت التعقيد من ورقٍ إلى جهاز.

بعض الجهات تملكُ نظامًا إلكترونيًا ولكن العقول السائدة فيها جامدةً، متحجرة بما استقرَّ فيها من مفاهيم الإعاقة، والعرقلة، والتسويف، لهذا فإنَّ "الأتمتة" عندها ليس حلاَّ للتعقيد، بل شكلًا عصريًا للتعقيد! لهذا نقول إنَّ الحاجة ماسَّة من الحكومة لأجل أن تُغيِّر الثقافة السائدة من خلالِ مؤسسةٍ مسؤولة، قائمة على أربعة أُسس رئيسية:

أولًا: الأَساس الوطني؛ وأعني به ترسيخ مفهوم أنَّ الموظف الحكومي إنَّما وضِعَ لخدمة الوطن وشعبه، وعُيِّن لإِنجاز مصالحه، وقضاءِ شؤونه، لهذا فهو خادم للشعب، وقد قال السلطان قابوس- طيَّب الله ثراه- عام 1978 عبارته الشهيرة لمسؤولي الحكومة "جميع المسؤولين في الحكومة خدم للشعب". وهذا الأَساس يجعل كل فردٍ مدركًا لهذه الحقيقة فلا يتكبَّر في تعامله مع أصحاب المصالح، وطالبي الخدمات.

ثانيًا: الأساس الديني؛ وهو ما يشكِّل المعتقدات الدينية التي يفترضُ أن ترسَّخ في عقلية الموظف الحكومي القائم على خدمة الناس، فهذا الأَساس يُعاني من خللٍ بين الاعتقاد والتطبيق؛ إذ إن "الإيمان ما وقرَ في القلب وصدقه العمل"، ولهذا فإنَّ الاختلال كامن في عقلية شريحة كبيرة تؤمنُ- نظريًّا- بقيم إيمانية لكن تطبيقها لهذه القيم ضعيف على مستوى العمل، وهو ما يتطلب تجسير الفجوة القائمة بين معتقد إيماني وعمل ميداني.

ولا شك أنَّ الأوامر الربّانية والنبوية كثيرةٌ في هذا الصدد، تربطُ الأجر والثواب بالإخلاص والعمل الصالح، وتشرطُ العبادة بخدمةِ الناس والتعاون والتكاتف فيما بينهم، وهي بهذا تضع المعنى المتكامل للإيمان ولا تقتصرُ على العبادات وحسب، بل أن رجحان الأخلاقيات في القرآن الكريم يفوق أكثر من أربعة أضعاف العبادات.

ثالثًا: الأساس الأخلاقي؛ القائم على أخلاق التعامل بين الناس بصورة عامة، وبين المنجز للعمل بصورة خاصة. وبدايةً فإِن العُماني قد عُرف بأخلاقه الفاضلة الحميدة في تعامله مع الآخرين، لهذا فإِنَّ القائم على خدمة الناس يجب عليه أن يحفظ الصورة العامة للإنسان العماني في تواضعه ودماثة خُلقه وحسن أسلوبه وتعاونه، وعليه أن لا يبطر ويتعالى ويتعنَّتْ في إنجاز عمله؛ لأن ذلك مخالف للأخلاقيات التي كوَّنت السِّمة العامة للشخصية العُمانية عبر التاريخ.

لقد خلصتُ في بحثٍ لي منذُ سنوات أَن هناك إيمانًا بصدقية القيم المتعلقة بالعمل، لكن يعترفُ الموظفون المبحوثون أنهم لا يطبقونها في واقع العمل.

رابعًا: الأساس المهني؛ وهو أَساس يتعلَّق بالمهنية الخاصَّة بأداء العمل وما تتطلبه من أمانة وجهد وإخلاص في سبيل جودة العمل، ورفع كفاءته، وأداءه بأفضل صورة. وهذا الأَساس يفترضُ أن يقترن بالكفاءة العالية التي تمكِّن الموظف من الإتقان فيما يفعل، في إطار من قانوني وبنزاهةٍ متجرِّدة من المصالح الذاتية، دون إقحام للشخصنة في التعامل مع أصحاب المصالح العامة، بل أن تكون المهنية هي الأساس الذي يتم التعامل به بين الطرفين.

هذه الأُسس الأربعة هي التي يُفترضُ أن تراعيها المؤسسة المكلَّفة بمراقبة أداء عمل المؤسسات الخدمية حين ترى النور، وهي في أساسها قائمة على الثقافة التنظيمية العامة للجهاز الإداري للدولة، والثقافة التنظيمية الخاصة لكل جهة خدمية.

أرجو أن يلتفتَ صنَّاع القرار إلى مثل هذه المؤسسة وإلى أهميتها في الإِصلاح الإداري، فالقضية ليست مجرَّد "أتمتة" نظام، مع تجاهل الثقافة التنظيمية التي هي أَساس لعقلية التقدم، وبناء الدولة، والوعي بالمصالح العُليا للوطن.