مجموعة العشرين.. والمحاذير العربية

 

مسعود أحمد بيت سعيد

masoudahmed58@gmail.com

 

بقدر ما يعكس البيان الختامي لقمة مجموعة العشرين المنعقدة في العاصمة الهندية بعض التوافقات الإيجابية حيال العديد من القضايا الساخنة على الصعيد العالمي، بقدر ما يعلن أن التوازن الدولي وتعدد الأقطاب أصبح إلى حد كبير حقيقة.

ولا شك أن تجنب إدانة روسيا بشكل مُباشر والذي هو بالأساس مطلب أمريكي أوروبي يُعبِّر بشكل أو آخر عن هذا الاتجاه ويحمل في مضمونه مؤشرَ حلٍ مرتقب. ومثل هذه القمم- كما يروج لها في الظاهر- تُعنى بالتنمية المستدامة والمناخ وفرض الضرائب على الشركات المتعددة الجنسية وتخفيض ديون البلدان الفقيرة وغيرها، وفي الباطن فإنها تُعنى بالدرجة الأولى بكيفية السيطرة على الموارد وفتح منافذ أمام الاقتصاديات الكبرى وتذليل الصعوبات والمعوقات التي تعترض طريقها.

في ظل الاحتقان العالمي يُحتَّم عليها إيجاد المسارات والممرات الآمنة لتصريف منتجاتها، وهذا ما يجعل الرأسمالية العالمية تلتقي عند نقاط التماس حفاظًا على مصالحها السياسية والاقتصادية. وإذا كان المظهر البارز لصراع الأقطاب المتعددة يجري على أرضية الرأسمالية وتحت قيادة ممثليها، فهو بالضرورة لا يعنى بتلك المشكلات التي يضعها على جدول أعماله. لقد استطاعت الهند أن تخرج إعلانًا ختاميًا متوازنًا يأخذ في الاعتبار المخاوف الروسية وكان محل ترحيب من قبل القوى الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية وكذلك روسيا، وهذا في حد ذاته يعطي مساحة واسعة للمُقاربات السياسية ويوحي بأن التفاهمات في الأروقة الدولية قادمة على أرضية مراعاةً لمصالح جميع الأطراف الفاعلة، إلّا أن ما كشفه المندوب الروسي في الأمم المتحدة من تورط أمريكي في تطوير أسلحة بيولوجية في أوكرانيا وهي وثائق خطيرة قد تطيح بكل هذه الاحتمالات. وفشل الرؤية الأمريكية الأوربية في فرض أجندتها الخاصة في تضمين مطالبهم الذاتية باعتبارها مطلبًا دوليًا- كما درجت العادة- يُعد من نجاحاتها. والقمة التي تزامن عقدها مع تفاعلات دول الجنوب النامية بدأت البحث عن الخيارات الآمنة في محاولة رسم المستقبل الاقتصادي والتجاري انطلاقًا من الشرق؛ حيث الربط بين مكونات الاقتصاد الطاقة والتجارة عبر المحيط الهندي والبحر العربي مرورًا بالخليج العربي ومنه إلى كل الاتجاهات، وهذا يعني أن الجغرافيا العربية أمامها فرص استثمارية كبرى تضعها في قلب الحركة التاريخية القادمة، وستكون ساحة صراع ساخن؛ حيث الصراع الصيني الهندي الخفي يُطل برأسه، وسط ركام من الحسابات غير المرئية بوضوح تام، وسيعطي للغرب بشكل عام وللولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص فرصة استثمار التناقضات وتوظيفها لمصلحتهم، خصوصًا وأن الهند رغم ثقلها وطموحها لم تحسم بعد تموضعها المستقبلي، وما زالت تراعي الإستراتيجية الأمريكية في الكثير من ممارستها العملية وتحول دون اتخاذ مواقف استقلالية واضحة.

إن التسابق في تقديم المقترحات الاستراتيجية الذي يشكل محور الفعل الآسيوي الاقتصادي والسياسي والذي يؤكد أن القرن القادم هو قرن آسيوي بكل المقاييس، يؤكد في الوقت نفسه عدم نضج الظروف الذاتية لهذه الأقطاب في بلورة خيارات مستندة إلى قوى اجتماعية جديدة تحمل رايات المشروع الجديد، وهو التحدي الأكبر أمام شعوبها، التي ترى أن إعادة إنتاج القديم وترشيقه لا يشكل مخرجًا لأزمتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ودون التوقف أمام هذه الاعتبارات، فإن العالم العربي بحكم موقعه الجغرافي وحجم موارده لن يكون بمنأى عن التغييرات الدولية وبحاجة إلى إرادة سياسية موحدة ترى المشهد المقبل من كل زواياه، بحيث تشتق استراتيجية جديدة، تمكنه من العمل الجماعي في مواجهة قوى عملاقة صاعدة، لن تكون جمعيات خيرية توزع المغانم مجانًا، بصرف النظر عن تاريخها غير الاستعماري.

التعامل مع ثلثي العالم مجسد في كيان سياسي واحد لن تكون عملية سهلة كما يظن البعض، مهما أبدى هذا القطب أو ذاك من توازن معقول في هذه المرحلة، ما لم تستوعب أهمية موقعها ومواردها وتوظيفهما لمصلحة حقوقها التاريخية وفي بسط سيادتها على جغرافيتها التاريخية. ورغم ذلك، فإن المعطيات الأولية لن تمكِّن الهند في المدى المنظور من ممارسة دور، يمكن الرهان عليه، وذلك لثلاثة أسباب رئيسية؛ السبب الأول: لا تستطيع الهند تغطية جزء كبير من احتياجات العالم، كما هي الصين. السبب الثاني: حجم التوترات العميقة مع محيطها الجغرافي. السبب الثالث: التوجه الجديد الذي يقوده الحزب الحاكم لجهة تغيير اسمها التاريخي بما يختزل كل مكوناتها في مكون محدد، وبما يحمله من مخاوف تنم في جوهرها عن توجه عنصري إقصائي، لن يوفر حالة استقرار اجتماعي أو ثقة دولية تؤهلها المساهمة الفعلية في بلورة ملامح العالم الجديد التي تحاول المساهمة في وضع لبناته الأولى؛ حيث إن هذا التوجه بقدر ما يُنعش هواجس داخلية، بقدر ما يضعها في تضاد مع الضمير البشري الجمعي الذي يسعى لتصفية البؤر العنصرية على الأقل من الناحية النظرية، وكل هذا وثيق الصلة بالدوائر الإمبريالية العالمية.

تبقى بعض المحاذير التي لابُد من التركيز عليها؛ حيث إن خارطة الطريق الهندية حددت محطات استراتيجية كبرى منها مدينة حيفا الفلسطينية وهي مدينة عربية مُحتلة من قبل الكيان الصهيوني الغاصب، وان اعتبارها إحدى المنصات الرئيسية في الشرق الأوسط دون الأخذ في الاعتبار كونها مدينة عربية محتلة ستكون خطيئة كبرى، ويطرح أمام الجماهير العربية شكل صراع من نوع آخر ولن تكون ممرًا آمنًا، إلّا بعد تحريرها واستعادتها إلى حضنها العربي، كما إن زجها في مشروع عالمي ضخم بحجم الطموحات المعلنة تعد سابقة تاريخية خطيرة في التسليم بحق المعتدي الصهيوني وفي تثبيت وجودة وتشبيكه في أخطبوط الرأسمالة العالمية بإرادة دولية في جانبه الاقتصادي بعدما تم تثبيت وجوده السياسي بإرادة القوى الإمبريالية، وهو تحول غير مسبوق، خصوصًا وأن معظم المشاركين والمراقبين في تلك القمة لهم مواقف متقدمة من قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية؛ الأمر الذي يتطلب أقصى درجات اليقظة حيال المشاريع العالمية الاقتصادية منها والسياسية، التي تقفز على حق الأمة العربية في استعادة كل أرضها المحتلة من الخليج إلى المحيط وضرورة التصدي لها، وإنْ كانت إلى الآن مجرد تصورات جنينية غير قابلة للتحقق في المدى القريب.