الحالة النفسية

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

لم نكن نسمع بمصطلح "الحالة النفسية" سابقًا ولا أتحدث هنا عن ماضٍ بعيدٍ جدًا قياسًا مع تسارع دخول الممكنات ذات الفاعلية الفورية على أحوالنا النفسية مؤخرًا مع تعدد وتنوع مصادرها، علمًا بأن التأثير النفسي المباشر على الإنسان ليس حديث عهدٍ ولا هو بالجديد، بل حالة مرتبطة ارتباطًا لصيقًا بحياته وظروفه ولكن تأثيره يزداد في حالة ازدياد تعقيد الحياة وكثرة سُبل الرفاهية بحيث بات المقياس طرديًا للحالتين.

لوحظ أن الأحوال النفسية لدى الشعوب الغربية أكثر هشاشةً من بقية الشعوب وما تخلفه من تبعات كالأمراض النفسية والعصبية والانتحار، وقد تعاظم هذا الأمر مع ازدهار الإمبراطوريات الاستعمارية منذ القرن الخامس عشر الميلادي والتي كانت تنشد فيها سبلًا أكثر رغدًا لشعوبها، والعكس نلاحظه عند الشعوب المُستعمَرة المقهورة، حتى ظهور ما يعرف "بالطب النفسي" عام 1808 على يد الألماني "جون ريل" بعد أن كانت الحالات لديهم قديمًا ذات صلةٍ عقائديةٍ بالأرواح الشريرة وإلزامية إخراجها بطرقٍ شتى من ضمنها ثقب الجمجمة ولا يخلو بعضها من الحماقة والجهل.

بينما كان دور التأثير النفسي على الشعوب المُضطهدة أقل حظًا؛ إذ إنها تعيش تحت وطأة الفقر والجوع والظلم وتحيا بأمل التغيير القادم مع افتراضيات سلبية تنشأ من اليأس وطول الأمد، وكان الأثر المباشر الناجم عن حالات الموت هو أكثر ما يمكن اعتباره تأثيرًا نفسيًا حقيقيًا وفيما عدا ذلك لا يتجاوز الشؤون الحياتية التي اعتاد معظم المجتمع التعايش معها بصفةٍ يومية، ولذلك لا تنشط في تلك المجتمعات حالات الانتحار ولا الأمراض النفسية، باستثناء ما تعارفوا عليه كالحسد والعين والمس، ولها طرقها العلاجية الميسورة عندهم وقد لا يخلو بعضها من الدجل والشعوذة وإيذاء الجسد.

"قهوتي الصباحية، ابدأ يومك بابتسامة، ابتعد عن السلبيين، أنت اليوم أسد"، وغيرها من مُحفزات الذات مما نسمعه ونشاهده في حاضرنا المعاصر من تفاعلات يُعتقد أن لها تأثير إيجابي على الحالة النفسية. ولا أستطيع الجزم إن كانت حقيقية أو أن تأثيرها فعلي ويدوم طويلًا، أم هو نوع مقبول من التضليل للواقع أو هروب عكسي أو تدريب بشري لتمرد النفس على الحقيقة. وقد تنجح مثل هذه الممارسات المؤقتة والمحدودة في إحداث تغيير وهمي طفيف على الحالة النفسية ما يلبث أن يزول بعد عدة دقائق، وإن كان ظاهر المشهد التمثيلي الذي يتعلق بذهن المتلقي يشي باستدامته نظرًا لجمود المحتوى أو قابلية تكراره لكنه لا يحكي الحقيقة الخفية للحالة النفسية إلّا ما ندر، لتعود الحقيقة الظاهرية بعد سويعات وتلقي بظلالها الكثيفة على المشهد الواقعي.

باتت المؤثرات على الحالة النفسية أكثر تعددًا وتنوعًا من الوقوف عليها بالحصر والإحصاء ولكن بالإمكان تعيين أهمها على الأقل، وهي ما تدور في شؤون الأوضاع المالية على مستوى الفرد- والفرد لبِنة المجتمع- وحيله المحدودة في جلب ممكنات الكسب مقابل المساحات الشاسعة للإنفاق والمطلوب منه خوضها والمجبور عليها أحيانًا، كالوفاء بالتزاماته المادية اليومية والشهرية والدورية، وقد يلجأ إلى تقديم سد الحاجة على الضرورة وتأخير بعض الضرورات إلى وقتٍ لاحقٍ غير مسمى لضيق سعة الوفاء بها وأملًا بالتغيير القادم؛ هذا التأخير أو التأجيل يخلق حالة من تراكم الضرورات. ويقابل هذا التراكم المادي للمستحقات تراكم معنوي وضغوط عصبية تؤدي بدورها إلى سوء الحالة النفسية أو عدم استقرارها، وقد لا يختلف الكثير منَّا في وقتنا الراهن وبحسب نتائج الأبحاث العلمية وحديث الخبراء المختصين حول ارتباط أخطر الأمراض العضوية بالقلق والتوتر، كما لا يمكن نكران نتائج العلاج المعنوي.

لا بُدَّ أن يتمتع المجتمع الصحي الذي يخلو أو تقل فيه الأمراض العضوية بنوع جيد من الاستقرار النفسي، وهذا قلّما نجده اليوم؛ حيث تزداد الضغوط النفسية نتيجة التعقيد اللاإرادي لأسلوب المعيشة ونمط الحياة والظروف المادية لدى شريحةٍ كبيرةٍ في مجتمعنا وإن أظهروا عكس ذلك الكبت، في مشاركة حالاتهم وقصصهم عبر مواقع التواصل، أو مظهرهم في اللقاءات العامة، مما يخلق مع مرور الوقت مجتمعًا هزيلًا يُعاني من الأمراض العضوية والتي قد تعضل بإمكانية العلاج أو الإنفاق على علاجها، فضلًا عن الروح السلبية التي ربما تسود لاحقًا وتجعل منه مجتمع سوداوي لا يستشرف المستقبل بنظرة أمل، ويتصدى بالتشكيك والتكذيب لكل ما من شأنه النهوض بالحياة المعيشية للفرد والأسرة، وهو نتاج غير حميد على مستوياتٍ عدة وأهمها الحرص على التعلم واكتساب المهارات وتجويد العمل واتقانه، وقد لاحظنا بعض هذه الأصناف الآن وهي في تزايد.

إنَّ المجتمع الفقير لن يُنتج إبداعًا ومن الصعب تقديم فكرٍ خلاق من مجتمع يرزح معظمه تحت وطأة الديون؛ حيث إن جزءًا كبيرًا من عقل المديون مكبل بها دون أن يشعر، وتتقاطر حوله أوهام الأمراض ويكاد يراها.