قاضي الجبل والأم العظيمة.. من مرويات اللبان

سالم الكثيري

ولد رائد قصتنا على وجه التقريب في بدايات القرن العشرين في جبل بيت زربيج المعروف حاليًا بجبل إتين وكان وحيد أبويه اللذين استقر بهما الحال ما بين سهل اللوب ووادي جرزيز المجاور له مع قطيع أغنامهما، حيث عرف عن الأب الكرم والعطاء؛ إذ كان يقدم حليب أغنامه للغادين والرائحين من الجبال والصحراء إلى صلالة بكل سخاء حاله كحال الآخرين من أصحاب الماشية في ذلك الزمن.

ولما كان أقارب الأم الذين نزحوا من البادية طلبًا للرزق ويعملون في تجارة اللبان يقطنون بلدة عوقد الواقعة على مقربة من صلالة التي تعد حاضرة ظفار والتي هي أقرب إلى البلدة الكبيرة مقارنة بمفهوم المدينة اليوم، فقد كانت ترى فيها شيئًا ما يختلف عن حياة الجبل والبادية؛ حيث المسجد والكتاتيب والسوق وغيرها.

طمحت الأم أن ترى ابنها الوحيد من بين الغلمان الذين يترددون على إمام المسجد يعلمهم القراءة والكتابة ويحفظهم القرآن.ولكن كيف لها ذلك مع قلة ذات اليد وقد باتت منفصلة عن زوجها ثم كيف لابن الجبل أن يرتاد الكتاتيب التي لا توجد إلا في المدينة.

مضت الأيام والليالي وهي تفكر في مخرج لتحقيق حلمها حتى توصلت إلى قرار يُعد من أصعب القرارات التي يمكن أن تتخذها امرأة ألا وهو العمل في منازل اللبان فالتحقت وابنها ذي الثمانية أعوام - بمعية عوائل ونسوة أخريات كما جرت العادة عندما بات العمل باللبان نمطا سائدا بين أهل ظفار في حينه - بقافلة اللبان المتجهة إلى الوديان الواقعة شمال منطقة المغسيل حاليا لتبدأ رحلتها في استخراج اللبان لعدة سنوات والمتاجرة به إلى أن تمكنت في نهاية الأمر من تحصيل مبلغ من المال اشترت منه دهليزا وهو بيت مناسب للسكن وتخزين البضاعة بمقياس تلك الأيام وعدد قليل قد لا يتعدى اثنتين أو ثلاثة من إبل مستهيل بن سعيد (حرقوز) بن أحمد الدعكري الكثيري "بنات إروهم" التي تعد من أفضل سلالات الإبل في ظفار والتي تكاثرت فيما بعد على يد ابنها، وما زالت متوارثة مع أحفادها إلى يومنا هذا وليستقر بها الحال كإحدى تاجرات اللبان في عوقد.

هكذا أرسلت الأم بعد ذلك ابنها ليتتلمذ على يد الشيوخ في البلدة الكبرى صلالة ومن شيوخه الذين عرفوا بالاسم الشيخ عبدالله شريم الذي يبدو واضحًا من اسمه أنه حضرمي؛ حيث كان جل أئمة المساجد إن لم يكن كلهم من أهل حضرموت ولعل المتتبع لأسماء المساجد القديمة في ظفار بشكل سريع تتبين له هذه الملاحظة ومنها على سبيل المثال مسجد باغيث، بادراج، باحدر، باقديرة، باحمران، بامزروع وكلها تبدأ بحرف الباء الذي يشير إلى أسماء كثير من القبائل الحضرمية إضافة إلى المساجد الأخرى التي تأسست على يد أهل العلم من مشايخ وهاشميين وغيرهم بطبيعة الحال على فترات تاريخية مختلفة.

ثمَّ لما شبَّ الطفل عن الطوق أكمل مسيرة العلم بنفسه متتبعا الفقهاء في حله وفي أسفاره وقد عرف عنه الحرص على العلم فبينما يتوجه الناس من الجبل إلى المدينة لبيع منتوجاتهم من سمن وحطب وماشية وغيرها ويشتروا بثمنها قوتهم واحتياجاتهم اليومية كان هذا الشاب، إضافة إلى السعي وراء لقمة عيشه يقدم من الجبال ليحضر دروسه ويتتبع شيوخ العلم للبحث في الجواب عن مسألة فقهية أو فتوى ما.

وهكذا ومع مرور الأيام أصبح لهذا الطفل شأن وبات يفد إليه أهل الجبل في السؤال عن أمور دينهم حيث كان يفقههم في أحكام الصلاة والصوم والزكاة والمواريث ويعقد لهم عقود الزواج ويحفظ الصغار والكبار القرآن الكريم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

عمّر الرجل طويلًا وقد عُرف عنه الورع والسماحة والبعد عن التشدد ونبذ الكثير من المعتقدات الدينية الخاطئة التي كانت سائدة آنذاك، وكان وضّاء الوجه طلق اللسان حسن الخلق لطيفًا بالضعفاء والأطفال والمساكين يختلف عن الآخرين في هيئته وملبسه تفوح منه رائحة العطر أينما حل وذهب وكان ذا مهابة ومكانة بين الجميع؛ فهو القاضي والفقيه ومعلم القرآن، يؤمه الناس ويتحلقون حوله ويتأثرون بتلاوته للقرآن وابتهالاته الدينية وحديثه ونصائحه التي تذكرهم بالآخرة وتقربهم إلى ربهم. وبات مضرب مثل في البر بأمه التي طال عمرها أيضاً، وكيف له ألا يبرها وهي صاحبة الفضل بعد الله في تفقهه وتدينه.

وعلى الرغم من أنه كان مِزواجًا وأنجب عددًا من الفتيات، لم تُكتب الحياة لأبنائه من الذكور؛ إذ كان الموت يفتك بالمواليد وأمهاتهم في معظم الأحيان ذلك الوقت، إلّا لأصغرهم الذي أسماه باسم لم يكن دارجًا بين أبناء جيله، لقد أسماه عبد الرحيم وهو من التعبد لله وطلب الرحمة منه. كما إنه أطلق على أبنائه الذين وافاهم الأجل صغارًا أسماءً ذات مسحة دينية وثقافة مجددة فسمّى: محمد الصادق وعقيل وحفيظ ومانع، بخلاف الأسماء التقليدية المتعارف عليها في المجتمع وقد استمر به الحال كقاضٍ وفقيهٍ في الجبل فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، دون مقابل؛ بل تطوعًا من تلقاء نفسه وتعبُّدًا لله، وباستقرار الناس في مدينة صلالة مع بداية السبعينيات، أوكلت إليه الإمامة والخطابة في مسجد "با قديره" الذي حمل اسمه مع مرور الأيام إلى أن كبر في السن ثم توفي رحمه الله في العام 1998.

هذه قصة أخرى من قصص اللبان في ظفار وهي تخبرنا عن امرأة عظيمة اختارت لابنها طريقًا آخر معاكسًا لما كان سائدًا في المجتمع حينها من ظلام وجهل، وموقف أب داعم لفكرة نيرة نبيلة في وقت عصيب أحوج ما يكون فيه الأب إلى ابنه، وخاصة إذا كان الابن الأكبر؛ ليصبح هذا الابن بمثابة مِشعل النور الذي يستضيء به الناس في حلالهم وحرامهم، ولتستمر بذرة الخير التي غرسها الأبوان بالكرم والصبر في علم ابنهما الذي نفع به الكثير ممن هم في حاجة إليه.

يتبقى أن أخبر القراء الكرام بأن اسم فقيهنا هو الشيخ علي بن مستهيل بن علي جوماع الشكل الكثيري المعروف بـ"ابن قحووت"، وأن أمَّه هي خيار بنت محمد بن سالم (العبعوب) شعفان بيت مسن الكثيري، وقد ترددتُ كثيرًا في كتابة هذا المقال تخوفًا من سهام النقد؛ ذلك أن الشيخ الذي نتحدث عنه هو جدِّي لأمي، وأن الكتابة عن الأقارب تُعد مخاطرة شديدة قد يُتهم فيها الكاتب بالمُحاباة، إلّا أنني نزلتُ عند إلحاح بعض القراء الكرام الذين طلبوا مني توثيق هذه القصة المليئة بالدروس والعبر، وذلك على ضوء مقالي الأخيرعن شخصية المهر ورأيت أنه من المناسب الإشارة إليها بالتزامن مع مشروع "مرويات اللبان" الذي يعدّه بعض الباحثين العمانيين من أبناء محافظة ظفار حاليًا.

****

هوامش:

سهل اللوب: سهل إتين حاليًا وكان مشهورًا بالخصوبة وكثافة الأشجار.