شراء العبودية بوهم الحرية

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

قد يشعر البعض بأن هناك قيودا تكبلهم وتحد من انطلاقهم إلى الأفق الأسمق لحياة الرفاهية والترف الفاحش كالتي تصورها السينما وبعض مشاهير الدول الغربية المتغشية بنقاب حماية الحريات، فيقعون فريسةً بين أنياب صراعٍ نفسي لواقعهم المَعيش فعليًا وتلفيق الحقوق المُفترى حتى تُدخلهم قناعة الالتباس في حتمية التمرد على الواقع من خلال اللجوء إلى أطرافٍ ملائكية الحضور متشكلةً للمُقبل عليها بسماحةٍ مفرطة من اللطف والتفهم كأن الإنسانية بها قد بلغت منتهاها، وما أن يتبرهن الالتباس لدى الباحث بظلفه عن حتفه في بلاد الأحلام السعيدة البعيدة حتى يتعلق بتلابيب المنقذ الملائكي ليعتقه من جور الأسر والظلم إلى سعة الحرية والحقوق.

 

 

وقد يقع الكثير في سوء فهم التفريق بين الحرية والحق وهو أمر وارد مع أن البون بينهما بائن جدًا، فالحريات تتجسد بإقرار قيمة الإرادة الذاتية بموجب أعرافٍ مجتمعية وسماحيات قانونية ذات حدودٍ تَستحسن ممارستها كحرية الكلام والتعبير والعبادة والاعتقاد وحرية التنقل والبيع والشراء والتملك، وما يحيد عن ذلك لا يعتبر حرية بالمفهوم الحرفي وإن تبادر للمرء أحيانًا شائبةُ تَناقضٍ أو تَعارض، فإنها ستبقى في نطاقٍ مملقٍ فردي بسبب ميول ضال أو أهدافٍ ورغباتٍ لا تُقبل على المستوى العام ولا تُستساغ إلا من فئة مجهرية الحجم وملتاثةٍ بشيءٍ من شطط وتأمل إسباغ زيغها على الجميع؛ أما الحقوق فهي الإقرار بقيمةٍ عينية لشيءٍ ما وتضمن السلطات هذا الامتياز بموجب القانون كالسكن والتعليم والصحة وغيرها علمًا بأن بعض طرق الحريات قد تلتقي مع الحقوق في زوايا تقاطع التنظيم والتقنين.

 

جاء الإسلام معه بمفهوم الحرية وحماية حقوق الناس وصون كرامتهم، وضيَّق مُمكنات الاسترقاق والاستعباد، فوسع سماحيات العتق وجعل منه كفارةً للذنوب وفيه أجر وثواب، وباتت العبودية الآن مستهجنة وممقوتة في معظم المجتمعات المتحضرة، ولكن تطور الأمر في بعضٍ منها إلى إخلاء طرف المسؤولية القانونية في ممارسة الحرية لدرجة الفئة المجهرية سالفة الذكر، وعليه فإن النتيجة التلقائية المترتبة على ذلك ستكون صادمة عندما تكفل حرية الإرادة بمفهومها المطلق العام دون قيود أو أحكام، بل ستقوض النتائج اللاحقة المعاني الأخلاقية من أساسها وسيضرب السفه والإنحطاط بأطنابه في صميم الإستقامة والنزاهة، وستُقبل بالتدريج تلك الممارسات المنافية للأخلاق والفطرة الإنسانية مع استمرائها على المدى الطويل حتى تُستساغ وتتخذ نوعًا من حس الوعي الجمعي المشترك لدى المجتمع وتقبله سواءً كان القبول جراء زخرف الوعود وأقواله، أو إراديًا أو تحت الإكراه بفقد مصلحة وطوائله أو بالترهيب والتهديد وغوائله.

 

 

إن الكرامة هي قيمة الاحترام الفعلي والأمثل للإنسان وهي استحقاقة الأصيل المتراكم غير المكتسب بالإكراه، ومادبجت القوانين تاليًا إلا لتؤطرها وتضفي عليها مزيدًا من جُدر الحماية ضد بعض التصرفات التي قد تنتهكها؛ فلن يجد الإنسان الطمأنينة الكاملة لكرامته أكثر من حضن وطنه الأم وإن كابر على ذلك ببعض المُبررات أو الأعذار ولن تُكسبه قوانين حماية دولٍ أخرى نفس المستوى إلا في بعض المفاضلات ذات الصلة بالشؤون المالية، أو أهدافٍ أخرى غير معلنةٍ قد تظهر فيما بعد الخوض في غمار تجربة البحث عن الكرامة في دولةٍ تُنسّب لنفسها ضمان الحريات والحقوق للمهاجر أو اللاجئ، وما ذلك إلا محض ادعاء فلا ولن يتساوى مواطنو تلك الدول مع الدخلاء أيًا كانت أسباب دخالتهم وإن زين لهم بعض المضللين والمغررين وهم الحرية التي تُطلق العنان لكل الممارسات من الأفعال الأخلاقية الحسنة والتي يفترض بديهيًا توفرها في كل المجتمعات والأفعال اللا أخلاقية ذات النزعات الاستثنائية والتي لا يُفترض بديهيًا توفرها في كل المجتمعات إلا الفاسق منها.

 

نُلاحظ أن نوعين من الناس من يقع في شِراك الحرية المطلقة ومصائد ضمان الحقوق وكمائن وعود الحياة الكريمة وهما: مغرر به في مرحلة التسويق ومغبون في مرحلة التنفيذ، فالأول تعرض لخسارة مادية أو معنوية وأنقلب على عقبيه ليعود عليه شعور الظلم بردة فعل عكسية ضد المجتمع أو السلطات بالحقد والكراهية وحب الانتقام، والثاني صغير في السن غِرٍ متسرع لا تجربة له في الحياة وانطلت عليه تزيينات وإغراءات المُغرِرين، والذين غالبًا ما يكونون كبارًا في السن ولهم باع طويل في الحيل وقدرةٍ واسعةٍ على الإقناع والإجابة على كل الأسئلة منتحلين شخصية المشفق العطوف والحاني الرؤوف، حتى إذا وجد الأول والثاني نفسيهما في نقطة اللاعودة فإن عليهم عندها الرضوخ للإملاءات التي تلزمهم بمحاربة أوطانهم والنيل منها باللغو والقدح والزيف والكذب هذا إذا كانت شخصياتهم تتحلى بالحضور الجيد وتؤهلهم لذلك الفعل أو استغلالهما في مآرب أخرى لا تقل شأنًا عن الجريمة أو ممارسة الرذيلة وكلا المسلكين سيدخلان صاحبيهما في نوعٍ جديد من العبودية ليرضخ لها من لا حول له ولا قوة والآبق مصيره الموت الإجباري أو الاختياري في بلاد الحريات والإنسانية والحياة الكريمة وحماية الحقوق.

 

 

سيسقط المتهوك في دائرة الشك بين البراهين الوهمية المبنية على مشاهدات يسود معظمها الزيف والتمويه وبين تحكيم البراهين العقلية ذات الإمكانات الواسعة والواقعية لمجتمعه المحافظ المحتشم، وبلاريب ستلتقطه حبائل المتصيدين في وحل مستنقعات العنصرية والفتن الطائفية والإلحاد والمثلية والنسوية من كارهي مجتمعاتنا العربية والإسلامية.