من هنا يتحقق الأثر

مدرين المكتومية

الحياة مليئة بالعقبات والتحديات؛ بل إنَّ الحياة في أحد أوصافها هي المصاعب، هي المشقة، هي الجد والعمل، أما الرفاهية والعيش الرغيد والراحة، فهذه من ثمار المُثابرة في الحياة، ومن نتائج تحمُّلنا لما قد نواجه من عثرات وخيبات أمل عديدة، خاصة إذا جاءت من أشخاص نُبدي لهم التقدير والاحترام، ورغم ذلك نسعى ونحاول أن نترك أثرًا طيبًا.

الكثيرون في هذه الحياة يزعمون أنهم يدركون حقيقتها، أو أنهم على دراية بما يجب القيام به، غير أنهم عادةً ما يقعون في الخطأ، وربما الخطيئة، خطيئة الأنا، خطيئة النرجسية، خطيئة العجرفة والتَّعالي وممارسة الفوقية مع الجميع، أمثال هؤلاء لن يبقى لهم أثر، ولن يذكرهم أحد، بعد رحيلهم، والرحيل هنا ليس بالضرورة خروج الروح إلى بارئها؛ بل الرحيل من المشهد، والمحو من الذاكرة، فهناك أشخاص نظل محافظين على أن يبقوا في ذاكرتنا، وربما نتعمد استذكار مواقفهم وعلاقاتنا معهم حتى لا يذهبوا في غيابات الذاكرة، ويصيروا طيّ النسيان.

ولذلك أجدني أحرص دائمًا على إبقاء علاقاتي بالآخرين في المنطقة الدافئة؛ حيث الاحترام المُتبادل والتقدير والشكر على أي جهد يُبذل، ويكفي أن يجد المرء مِنّا نفسه محط اهتمام الآخرين، فقط لأنه بادلهم هذا الاحترام في مواقف كثيرة. لكن الأزمة الحقيقية، تكمن في التعامل مع النوع الآخر من البشر، هؤلاء الذين يلهثون في هذه الحياة وراء كل مكسب، ولا يرون الحياة سوى "لُعبة" كبيرة عليه أن يظل يلعب بالورقة الرابحة حتى آخر نفس، مهما كلفته هذه الورقة من خسارة أُناس، أو تعرض للإحراج وسوء الفهم والتقدير، وربما حتى الانتقاص من الكرامة وحفظ ماء الوجه. رغم ما قد يُثير أمثال هؤلاء في نفسي من مشاعر سلبية تجاههم، إلّا أني أشعر بالشفقة عليهم، فالحياة أسهل مما نتخيل، وأصغر مما نحارب من أجله، فما سُمِّيَت الدنيا بهذا الاسم إلّا لأنها أدنى من كل شيء حولنا، فما وزن الدنيا إذا خسرنا كرامتنا، وما قيمة الدنيا إذا أخفقنا في إسعاد المُقربين، وما أهمية الدنيا إذا ما فقدنا الأحبة والأصدقاء لأنهم لم يعودوا يرون فينا ذلك الشخص الشهم صاحب القيم النبيلة والأخلاق السامية.

ولعل من أروع الأمثلة التي أضربها في هذا السياق، آية كريمة في القرآن العظيم أتوقف عندها دائمًا، تتحدث عن أهمية بناء علاقات إيجابية وطيبة مع الجميع، حتى مع أولئك الذين يختلفون معنا ولو كانوا أعداءنا. الآية وردت في سورة الشعراء على لسان نبي الله إبراهيم، عليه السلام، عندما خاطب ربه قائلًا: "وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ"، أي إنه ناجى الله سبحانه وتعالى لكي يجعل له أثرًا طيبًا بعد مماته، ويظل يذكره النَّاس من بعده بالخير؛ ليأتي رد المولى- جلّ في عُلاه- والاستجابة الربانية لدعاء النبي إبراهيم في سورة الصافات في قوله تعالى "وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ.. سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ.. كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ". لقد وصف الله من يحرصون على أن يتركوا أثرًا بعد رحيلهم، بأنهم من المُحسنين، وما أعظمها من صفة، فالإحسان خلق عظيم إذا ما تمسكّنا به تحققت سعادتنا في الدنيا والآخرة. لذلك علينا جميعًا أن نُحسِن في علاقاتنا مع الآخرين، مهما كانت ردة فعلهم.. نعم أعلم يقينًا أننا لسنا أنبياء، لكن هم القدوة والمثل لنا، ونبي الله إبراهيم مارس الإحسان مع قومه، رغم اختلافهم معه ومحاربتهم له حتى إنهم ألقوه في النار عقابًا له على مخالفته لعقيدتهم التي وجدوا عليها آباءهم.

اتركوا أثرًا من روائكم، حافظوا على علاقات ودودة وطيبة مع الجميع، ابتعدوا عن كل ما يُثير الضغينة والحقد والحسد والتنافس المذموم، واركنوا إلى الأخلاق الحميدة وانتهجوا مسارات الخير والتآلف والتسامح، لتفوزوا وتنعموا بحياة مليئة بالاستقرار النفسي، والسكينة الروحية..