التينة

 

 

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

 

"يُحكى أن رجلًا أراد أن يُهدي الحجاج بن يوسف الثقفي تينًا قبل أوانه ليأخذ منه جائزة، فلما صار بباب قصره، أقبل الشرطي ومعه طائفة من اللصوص وقطاع الطرق، وقد هرب منهم واحد، فأخذ الشرطي صاحب التين عوضًا عنه!،

ولما عرضهم على الحجاج، أمر بضرب أعناقهم، فصاح صاحب التين قائلًا: لست منهم، فقال له: ما شأنك؟ فقص عليه القصة.

فقال الحجاج: لا حول ولا قوة إلا بالله، كاد الملعون يهلك ظلمًا، ثم قال للرجل: ما تريد من الجائزة؟ فقال له: أيها الأمير، أريد فأسًا، فقال له الحجاج: وما تصنع بها؟ فقال: أقطع شجرة التين التي عرفتني بك. فضحك الحجاج، ثم أمر له بمال!"، القصة نقلًا عن كتاب "غذاء الأرواح بالمحادثة والمزاح" للمقدسي.

حضرتني هذه القصة وأنا أشاهد بسعادة غامرة تقريرًا في نشرة أخبار الخامسة بقناة عُمان حول انتشار زراعة التين بكميات تجارية في بعض محافظات سلطنة عمان، وكنت أتابع باهتمام حديث المواطنين عن هذا الإنتاج وتجاربهم الحثيثة لتنويع الأصناف المختلفة من التين.

رغم أن التين كان هو الرابط بين القصة والتقرير الإخباري، إلا أن الشيء بالشيء يذكر.

دائمًا لدى كل منا شخص يترقب حضوره ورؤيته، ويتشبث بتلابيب الحديث حتى لا يتنهي الحوار أو النقاش معه، وذلك لما يتمتع به من دماثة الخلق وطيب الحديث، وتحس بالثراء المعنوي والسمعي في وجوده حتى قبل أن ينطق، شخص تصر دومًا على ري الأشجار المثمرة على جانبي طريق الوصال حتى لا ينقطع حديثه، تتمنى لو أن عقرب الزمن ينسى الحركة لتتوقف تلك اللحظة إلى الأبد. ولكن في الجانب الآخر من منَّا لم يبحث عن فأس في يوم ما ليقطع شجرة التين التي عرفته على شخصية ما؟ شخصية تنثر سلبيتها بسخاء لمن وعلى من حولها، لا يزيدك وجوده إلا أذى وسُمِّيَّة، من منَّا لم يضع يده متحسسًا ندبة الجرح الغائر في ظهره ليذكر نفسه بتجربة سيئة مع شخص ما، شخص لا يُؤتمن على شيء، حتى الكلمة لديه لا تصان، بل يتحين الفرص لتوجيه الضربة القاتلة.

وقد ترغب في أن تحمل فأسا لتقطع به كلمة انطلقت من فمك فأحرقت الأخضر واليابس، وآلمت وجرحت وأثارت وفرقت وأصابت في مقتل، بحجج كثيرة منها: (هذا أسلوبي في النقاش)، أو (أنا ما أقدر أخلي شيء في قلبي)، أو (أنا واضح وصريح) وغيرها الكثير والكثير من المُبررات الواهية، وبعد أن تشتعل النار وينتشر الحريق ويطال شررها ثيابك، وتسود بها جدران بيتك، تجلس مُحدثًا نفسك: ليتني ما قلتها، وهذه الشجرة لن تبحث عن فأس وحسب حينها؛ بل ستحفر الأرض مجتثًا جذورها، ولكنك نسيت أو تناسيت أن الله تعالى قال -جل قائلًا عليمًا- في سورة إبراهيم: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِیثَةࣲ كَشَجَرَةٍ خَبِیثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارࣲ(26)}، لن تجد جذورا لهذه الكلمة، بل عليك أن تراجع نفسك وأن تلجم لسانك لأنك إن لم تفعل فلا تلومنَّه لأنه خانك.

وقد يبحث عن فأس ذلك الذي غرس عادة مؤذية أو خطرة أو منفرة واتخذها عادة ملازمة له، كالكذب أو التعاطي أو السرقة وغيرها من العادات نسأل الله أن يسلمنا وأبناءنا وجميع المسلمين والمسلمات منها، أو حتى تلك العادات التي قد يراها البعض بسيطة بحجة أن الولد أو البنت لازال طفلا وسيتعلم عندما يكبر، كقلة احترام الكبير، أو رفع الصوت والتلفظ بالألفاظ النابية، ولا يلقي بالاً بأن من شب على شيء شاب عليه، فهذه نباتات ضارة يجب أن ندع الفأس جانبا، ثم تقتلع وتهيئة التربة لغرس عادة جديدة مفيدة وصالحة لدينه ودنياه وعاقبة أمره.

 

-----------------------------------------------

 

توقيع:

"فاض السدر يبغا نفاض // وما أروم أنفضه على ثيابي.

عب أنا زير ألايع فأر؟ // حشا عليّ وعلى ثيابي''

من فن الميدان، لقائله.