الورقة والقلم

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

المبدأ غالبًا لا يتغير وإن تغيرت الظروف؛ فالمواصلات منذ القدم كانت وسيلة للنقل وما زالت كذلك إلى يومنا هذا، مع تغير الأدوات والآليات بين الخطاب والجواب والناقل والمنقول ليبقى المبدأ ثابتًا لم يتغير منذ خطاب سليمان مع الهدهد الناقل والجواب مع المنقولات في هدايا ملكة سبأ وصولًا إلى تطور الرسائل في صيغٍ مُتعددة لتتخذ لها لاحقًا صورًا وأشكالًا مقالية ذات معالمٍ ودِلالاتٍ تُعرف من خلال موضوع المقال.

وقد يُبين العنوان أحيانًا المضمون العام قبل الخوض في المحتوى وهذا نوع من التعيين الدلالي للتبسيط؛ بعد اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر على يد الألماني يوهان جوتنبرج ثم البداية الفعلية لنشر الرسائل التي تحولت من المخاطبات الشخصية إلى المقال ذي المخاطبات العامة إعلاميًا وبعد عصر التنوير الفرنسي في القرن السابع عشر حتى بدأت الكتابة تتخذ قالبًا مبسطًا بطريقةٍ إنشائيةٍ وسهلة تدور حول شؤون المجتمع واهتماماته في معظم الأحيان مع استثناءاتٍ بسيطةٍ في المقالات العلمية الرصينة والمحكَّمة كونها تستند إلى نظام البحث وتعضده بالاستنتاج وتخاطب فئة محدودة جدًا من أهل التخصص وهي رسمية إلى حدٍ بعيد وتفتقر إلى الصور الجمالية والمُحسنات البديعية.

وها نحن الآن بعد تلك الحومة التعريفية الخاطفة والسريعة نصل إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي عندما بدأنا بكتابة الرسائل يدويًا على الورق المُخفف، وبما أن سعر طابع البريد يحدده وزن الرسالة فلا بُد من مراعاة خفتها حتى لا نضطر لإضافة طابع آخر يزيد عن مائة بيسة، وسوف أتجاوز هنا شرح الكيفية والآلية التي ربما قد لا يعرفها بعض من جيل القرن الحادي والعشرين عندما كنَّا نهرول لعدة كيلومترات بغية وضع الرسالة في صندوق البريد وانتظار الرد الذي قد يصل بعد شهر أو يزيد؛ ولكنهم يعلمون بأنه مبدأ مراسلة وهو موجود الآن ومستخدم ولكن مع تغير الظروف والأدوات.

كانت الرسالة هي اللبنة الأولى لكتابة المقال، وكل مقالٍ قبل أن ينشر يرتدي عباءة الرسالة بشكلٍ من الأشكال وما المقالات إلا نوعًا متطورًا من رسائل المخاطبة العامة لتعرف لاحقًا بمسمياتها في نوعياتٍ متعددة كالمقال السردي الذاتي والتفسيري الإقناعي والجدلي المُقارن والموضوعي والوصفي وغيرها من الأنواع، ومع اختلاف أشكالها وتعريفاتها إلا أنها تتفق كلها على مقدمةٍ ومحتوى وخاتمة وهذا ما تعلمناه سابقًا في حصة التعبير الأسبوعية؛ وقد استفاد الجميع بما في ذلك وسائل الإعلام المسموعة والمرئية من عملية النشر والتوزيع وضمان الوصول وتبسيط الاستلام عند دخول الوسائط المتعددة ومنافع التقنية الحديثة على الخط، ولكن ومع كل هذه الابتكارات لا يزال مبدأ الورقة والقلم أساسًا قائمًا منذ الريشة والمحبرة وعود القصب وصولًا إلى قلم بيروم كروي الرأس بحبره الجاف والطبشور على السبورة السوداء ثم البيضاء إلى القلم الإلكتروني على شاشة اللمس التفاعلية.

قبل 100 عامٍ من اليوم لم يكن في مُخيلة معظم الناس إمكانية انتقال أحدهم بين بلدين أو أكثر في يوم واحد، وربما تُقبل الفكرة كنوعٍ من السحر أو الشعوذة وإمكانية تصديق حدوثها تندرج ضمن عالم المعجزات أو الأساطير، كما هو الحال مع الرسائل، فلم يكن بمخيلتنا قبل منتصف تسعينيات القرن العشرين أن يتبادلها كل النَّاس في هواتفهم المحمولة وإن كان نظام المراسلة على الإنترنت قد طبق فعليًا، إلا أن الأدوات لم تكن متاحة للجميع فضلًا عن المعرفة، وكانت الرسالة النصية على الهاتف ذات سعة صغيرة لا تتجاوز 80 حرفًا؛ ولذلك سميت بالقصيرة. وبالعودة إلى رسالتنا في نهاية السبعينيات مع وزنها وقيمة الطوابع، فإنَّ المبدأ يتكرر مع رسائل الهاتف آنذاك؛ حيث إن تكلفة الرسالة تعادل 10 بيسات وتساوي المائة بيسة 10 رسائل نصية، وهذا طابع وزنٍ من نوعٍ حديث، بمعنى آخر أن 12 ألف حرف بنسبة تقديرية تكافئ 2500 كلمة تساوي ريالًا واحدًا والذي يُعادل بمفهوم اليوم 1 جيجابايت في اشتراك البيانات اليومي. ونلاحظ هنا أن السرعة بين الخطاب والجواب قد تقلصت إلى أجزاء من الثانية بعد أن كانت بالأيام والأسابيع وصاحب ذلك بالضرورة الاختصار والاختزال ما أفرز ثقافة "عصر السرعة" وبلغ أقصاه في اتهام الوقت بأنَّه العائق الأول في طريق الكتابة والقراءة والوقت من ذلك براء، وإنما هي رغبةٌ من البعض في تكييف الكتابة والقراءة مع وهم قلة الوقت وغض النظر عن الإخفاق في تنظيم الوقت.

يُقال: "لكل مقام مقال"، وعليه فإنَّ لكل مقال رسالة ورؤية وحتى يتقد هذا المفهوم ذهنيًا فلابُد من شرارةٍ تُشعله لتضيء الطريق للفكرة الحبيسة في سجن العقل فتتحرر إلى صيغتها الواقعية في إطار مقال يحمل في طياته رسالة ذات تأثير حقيقي وفي سبكٍ فنيٍ يحول الفكرةَ الصغيرةَ إلى قالبٍ كبيرٍ وحساس، وبدون المهارة لن يتحقق كل ذلك وبالتالي فإن الممارسة والتدريب وكثرة المطالعة ومواكبة الأحداث تعتبر من أهم وأنجع العوامل لاكتساب المهارة.

وحتى التزم بعناصر المقال الثلاث بعد المقدمة والمحتوى؛ يتوجب عليَّ الولوج إلى الخاتمة ولكن بطريقة فنية دون التصريح بها أو التلميح للحفاظ على التسلسل وإيقاع النمط الكتابي وانسيابيته والذي قد يعتمد على نوعية المقال نفسه ويسايره بوتيرةٍ ثابتة، وكذلك للنجاة من هوة الملل والتي يقع فيها البعض على مستوى الكُتَّاب والقُراء وبما أن الكاتب هو أعظم المُغرقين قناعةً بما يقول فإن ضجر القُراء هو أكبر خطر وأكثر حساسية فعندما يرفض المرء متابعة القراءة بسبب الحشو غير المبرر أو الانفصال عن تسلسل الأفكار؛ فهو يجعل من الكسل أو النعاس حافزًا قويًا للترك والإهمال وهي خواص دفاعية يفتعلها المخ عند الشعور بالملل؛ ولذلك فإنَّ الكتابة المقالية تصبح أكثر قبولًا وجذبًا عندما يقترب موضوعها من ملامسة الشريحة الأكبر من المجتمع أو يعنى بشأنٍ مهمٍ من شؤون عامة الناس كالفقر والبطالة وغلاء الأسعار وربما حتى السياسة وكرة القدم ومع مراعاة جودة اللغة والمحتوى سيجد ذلك المقال طريقًا سريعًا للقبول.

ما ورد أعلاه، هو خلاصة مختصرة لما جاء في محاضرتي بمكتبة "دار الكتاب" حول تطور الرسائل إلى كتابة المقال ومواكبة التطور الإنساني في هذا الشأن، وما جاء كذلك في اللقاء الإذاعي مع برنامج "صباح الخريف" عبر إذاعة "مسقط إف إم"؛ ضمن فعاليات الأسبوع الماضي بالتعاون مع "صالون مجان الأدبي".