الفكر الإنساني وأثره على توجه المجتمع

 

محمد بن عيسى البلوشي

 

التحديات والحلول

 

أستذكرُ مع كتابة هذه المقالة، الحديث الذي دار بيني وبين أحد خبراء الأرصاد الجوية، عندما سألته يومًا عن التغيُّرات التي طرأت على الأحوال الجوية في منطقتنا، فأشار بقوله إن هناك تطرفًا للمناخ أصاب العالم، وعليه أصبحنا نشهد الأعاصير والحالات المناخية الاستثنائية التي تهب على أجوائنا في فترات متقاربة.

وعندما بحثت قليلًا عن الأسباب التي جعلت المناخ يتطرف بهذا الشكل غير المألوف، وجدتُ أن سلوك الإنسان هو المسبب الرئيسي الذي جعل هذه الظواهر تتكرر، رغم التحذيرات العالمية للبشرية نحو الاحتباس الحراري وأهمية التخفيف من انبعاثات المصانع والملوثات المختلفة.

وبالمقارنة مع الظواهر التي بدأت تتشكل في مجتمعاتنا والتي معها نتلمس آثارها في سلوك البشر نحو قضاياه المعاصرة (الوطنية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، وغيرها)، نلمح من نوع تعامل الإنسان مع الأسرة والمجتمع والمؤسسة والخدمات واستخدام التكنولوجيا تغييرا في السلوك والتوجه، والذي أصبح غير مألوف مع فطرة الإنسان التي ألفناها. وهنا أخذ مثالا على واقع حال بعض المجتمعات ولا نقيس عليه بالتعميم.

في السابق، كانت وسائل الإعلام المحصورة على الإذاعة والتلفزيون والصحف الورقية، هي من تزودنا بالأخبار، وتقيس تلك الوسائل معها حجم المعلومات؛ بما يتوافق مع طبيعة المجتمع من حيث الفائدة المرجوة، وكانت الأخبار غير المُفيدة تُحجب بسبب أنها مواقف مؤقتة لا يمكن قياسها كظاهرة عامة يمكن أن تنبه المجتمع إلى خطر ما، إلا ما كان منها يمثل خطرًا مباشرًا يُرجى من نشره التوعية أو التنبيه.

واليوم نشاهد سلوكًا يظهر على المجتمع نحو تعاطيه للأخبار والمعلومات عبر خوارزميات إلكترونية تسمى (التواصل الرقمي أو الاجتماعي)، ويجعل من الإثارة والتشويق أهم سمات النشر والتوزيع، دون الأخذ بقيم النشر والإعلام الذي تربى عليه رواد المدارس الإعلامية العريقة وهو تقديم المعلومة بهدف نبيل ودافع حقيقي وقيم ترتكز عليها دون تزييف أو توجيه، واستثني من ذلك من تعلم أبجديات المهنة وعرف عمقها الحقيقي.

والسلوك الذي ظهر في مجتمعاتنا المحافظة على قيمها المستنبطة من ديننا الحنيف بسبب دخول منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، ساهم في تأثر الفكر البشري وتوجهاته نحو طريقة تناوله لقضاياه الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل مباشر، وظهرت معه سلوكيات بعيدة عن قيمه الأصيلة، يقوده في ذلك فكرة صناعة التأثير لتوجيه المجاميع نحو اتجاه يرغب به، وهذا هو الخطر الذي يهدد مستقبل الفكر البشري ويوجد أمية فكرية يصعب التعامل معها.

إنَّ مجتمعات اليوم أمام خطر مُحدِّق وعدو قريب يتربص به الجهل والتنمر والانحلال عن القيم والركون إلى الكسل وكسر فضل العلم والتعلم والتنوير والعمل، والانقياد وراء الآخر والسعي نحو الغنى السريع والتفاخر والفوضى الفكرية والتشويش ووأد القدوة المجتمعية، وغيرها من الشهوات الفكرية التي يريدها أصحاب الخوارزميات ما علمنا منها وما لم نعلم حتى الآن. وكأننا في حرب فكرية يراد لها أن تكون حتى تصاب المجتمعات بالوهن ولا تقوم لها قائمة.

إن دور الأسرة في تشخيص مثل هذه الحالات هو أول برامج الحلول الموضوعة أمامنا، فهي المؤسسة الرسمية الأولى التي تراقب سلوك أفراد أسرتها من الأبناء، وأيضاً تلمس التغيرات التي تطرأ على أفراد الأسرة بسبب تعرضهم المباشر لوسائل التواصل الاجتماعي ومعرفة مدى تأثرهم من تلك الرسائل عبر قياس سلوكهم داخل المنزل ومتابعة سلوكهم الخارجي. وأعتقد أن تراجع الأنشطة الصيفية الثقافية كالمسرحيات ومسابقات الفنون والتوعية والندوات، والرياضية المتنوعة، وغياب الأنشطة الاجتماعية المجدولة ترك مساحة فراغ للفكر البشري كي يتجه إلى مسارات أخرى عبر فضاء التكنولوجيا، وهي واحدة من الأدوات المساعدة لعودة الأمور إلى طبيعتها الإنسانية.

ولا ننسى أن الدور المؤسسي الذي على الحكومات أن تقوم به في أسرع وقت ممكن، تتحمله المؤسسة التعليمية والإعلامية والدينية في إعادة ضبط الفكر البشري من حيث إدخال البرامج التعليمية المفيدة والتي تأخذ التقنية كأداة مساعدة للتعلم والتطوير والابتكار والتحسين المستمر للفرد والمجتمع، ويساعده في ذلك تطوير الرسالة الإعلامية المواكبة لرصد التغيرات المجتمعية وإعادة ضبط السلوك عبر برامج تُساعد في تمكين نظرة المجتمع إلى استثمار التطور التكنولوجي واستخداماته وأساليبه وأدواته، والتنبيه لأي خطر محدق، وأيضًا إعادة توجيه العقل البشري نحو المواضيع ذات الأولوية والمساهمة في تحسين إنتاجه وتطور إدراكه بما يُسهم في تحسن أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية ورفع مساهمته المجتمعية، بينما يأتي الجانب الديني ليذكر الإنسان برسالته الأسمى في الكون وقيمه التي يسترشد بها طريقه.

لا شك أنَّ العالم أمام تحدٍ غير مسبوق لإدراك الإنسان نحو الأثر الصغير الذي يصنعه في يومه، والذي يقود به مجتمعه إلى غده، فإن كان الأثر إيجابيًا فستظهر نتائجه على الفرد والمجتمع، وإن كان عكس ذلك فبكل تأكيد تظهر ظواهره سلبًا.. "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم".