خالد بن سعد الشنفري
لميدان سمحان بالحافة حكايات وحكايات ارتبطت معظمها بذاكرتي الغضة في ستينيات القرن الماضي وظلت ترافقني لأكثر من 5 عقود من الزمن إلى يومنا هذا رغم ما أخذ وأعطى الزمن على هذه الذاكرة.
في الحقيقة إن الذي نشط الذاكرة اليوم عن ميدان سمحان وذكريات مهد طفولتي بالحافة هو فعاليات عودة الماضي لعامه الثاني هذا الخريف على أرض ميدان سمحان الذي يتوسط إطلالة ظفار على بحر العرب وبندرها التاريخي على العالم، حيث اشتمل هذا العام على فعاليات أكثر تنوعًا ومناشط فنية وثقافية جمعت بين بيئات ظفار الثلاث الحضرية والريفية والبدوية والتي سطرها شباب الحافة وظفار عموما على أرض ميدان سمحان.
نُثمِّن هذا المسعى المشكور من هؤلاء الشباب لاستننباط عبق الماضي مع إيقاع العصر الحديث في بانوراما رائعة لتحقيق مطلب تجسيد وتزاوج الأصالة والمعاصره معًا في موقع واحد في أبهى حللها لتذكير أنفسهم أولًا، وثانيًا لنقل تراثهم الذي يفاخرون به وخصوصيته إلى زائري ظفار في خريفها من كل مناطق عمان الحبيبة المترامية الأطراف ومن أنحاء دول مجلس التعاون الجارة، الذين تتزايد زياراتهم إلى ظفار وبالذات في خريفها الماطر وجوها وطبيعتها الاستثنائية الفريدة، وذلك دون كل ما يحيط بها من شبه الجزيرة العربية؛ بل والعالم العربي، رغم تغير طبيعة المناخ على مستوى العالم في الأعوام الأخيرة، وكأنَّ حال ظفار وخريفها يقول: أنا هنا حالة استثنائية اصطفاها الرحمن لا تتبدل ولا تتغير وستظل كما كانت هكذا منذ آلاف السنين.
العادة أنه يوجد ميدان يتوسط كل منطقة سكانية من مناطق ظفار يسمى عادة باسمها، ومخصص لمناسبات أفراح وأتراح هذه المنطقة وهبوت أعراسها وجميع فنونها التقليدية، لكن ميدان سمحان بالحافة كان استثناءً من هذه القاعدة؛ فهو لم يُسمَّ باسم الحافة ولا يُعرف إلّا باسم ميدان سمحان، وما لهذا الاسم السمح الجميل القوي من معانٍ كثيرة لغويًا، ثم إنه الميدان الوحيد في ظفار الذي يُطل على شاطئ بحر العرب مباشرةً، وقد منحه ذلك ميزات كثيرة بدءًا من اتساع المساحة بامتداد الشاطئ والبعد النظري لزرقة ماء البحر وجمالها والتهوية في كل الفصول.
لم يكن ميدان سمحان للأفراح والهبوت والفنون المختلفة فقط كبقية ميادين مناطق ظفار؛ بل كان يُستغل في أوقات عديدة كموقع للحل والعقد والصلح بين أبناء المنطقة، وأيضا كان سوقًا شعبيًا بكل المقاييس في الفترة المسائية من كل يوم؛ حيث كانت العادة أن سوق الحافة (الماركيت)- وهو بالمناسبة السوق المركزي الوحيد في ظفار قديمًا وحديثًا- للحوم والأسماك والخضار ومنتجات محلية أخرى، وكان يسمى قديمًا بـ"سوق العرضة" وتتواصل فيه عمليات البيع والشراء من الصباح الباكر إلى وقت صلاة الظهر وتتوقف الحركة فيه نهائيًا بعد ذلك.
اعتاد تجار الفواكه وتجار اللحوم نقل ما تبقى من بضائعهم بعد عصر كل يوم إلى ميدان سمحان بالحافة القريب منهم؛ وذلك نظرًا لعدم وجود الثلاجات في تلك الفترة في ظفار كلها لعدم وجود الطاقة الكهربائية أصلًا- إلّا في قصر الحصن- ليبيعوها في الفترة المسائية في الميدان.
كان ميدان سمحان بعد عصر كل يوم يعج بالحركة والحياة، ويتنقل الناس بينه وبين شاطئ البحر، فيقوم الجزارون بشواء ما تبقى من لحومهم، وذلك بإعداد المشاكيك وقليها بشحومها في مقلاة كبيرة على نار الحطب الهادئة أو طهيها في قدور كبيرة (مفهيش) وبيعها بالقطعة ليتمكن من شرائها الكبار والصغار، ويعرض أصحاب الفواكه البطيخ (الجح) الظفاري القديم زكي الرائحة قاني الإحمرار، على أشكال مثلثات ومربعات جميلة الشكل، إضافة إلى منتجات بيوت وأسر أهالي الحافة من الحلويات؛ كقشاط النارجيل وكعك القالب الظفاري والمقصقص (منداسي أو باخمري) والفندال المطبوخ واللقيمات وغيرها وغيرها؛ بل وحتى بيع وتبادل أي مقتنيات أخرى بما فيها الأسلحة النارية والبيضاء وذخيرتها، كل ذلك إلى جانب تفريغ الشباب لطاقاتهم بالميدان بممارسة الألعاب الشعبية العديدة؛ ككرة القريع والقفز في الهواء (الكمز) على رمل الشاطئ الفضي الناعم، وغيرها من الألعاب الشاطئية.
كانت حياة كاملة تبدأ بعد عصر كل يوم على ميدان سمحان الحافة إلى وقت رفع آذان المغرب من مسجد الشيخ عبد الله العتيق في وسط الميدان، فيذر الجميع البيع واللعب ويتوجهوا في جماعات سراعًا كي لا تفوتهم صلاة المغرب جماعةً.
ما زلتُ اتذكرُ أقدم حدث كبير، ما زال عالقًا بذاكرتي وكنت ما زلت غضا حينها، وكان ذلك في إعصار 1964 على ظفار، وكادت الحافة بسببه أن تغرق من تجمعات المياه الهائلة عليها، فخرج كبار رجالاتها إلى ميدان سمحان يتداولون الأمر فيما بينهم لإنقاذ الحافة، وقرروا حينها شق خندق من الميدان إلى البحر عبر الشاطئ لتصريف المياه، ونُفِذَ العمل بالفعل جماعيًا على مدى يومين أو ثلاثة واشترك فيه كل أهل الحافة صغارًا وكبارًا.
وحدث آخر كبير ومهم شهدتُهُ في ميدان سمحان الحافة وما زال عالقًا بالذاكرة، وكان ذلك في العام 1973 أثناء اندلاع حرب أكتوبر المجيدة، بين العرب وإسرائيل، وتنادت عمان كلها لجمع التبرعات للمجهود الحربي، ولم يكن حينها أي ميدان يتسع للجماهير الغفيرة التي أتت من كل حدب وصوب لتشارك في التبرع للمجهود الحربي؛ فاختير ميدان سمحان لذلك لاتساع مساحته. وأذكر أن اللوحات كانت من القماش الأبيض تغطي الميدان ومكتوب عليها باللون الأحمر عبارة "تبرع بريال تساهم في شراء رصاصة وتقتل جندي اسرائلي".
شكرًا صاحب السمو السيد محافظ ظفار، شكرًا سعادة الدكتور رئيس بلدية ظفار، والشكر لكل شباب الحافة وظفار عمومًا، بمختلف بيئاتها وولايتها، وكل من ساهم في عودة الماضي وجعل من مقولة "التاريخ يعيد نفسه" تتحقق على أرض ميدان سمحان الحافة.