قصة القرية العالقة (6)

 

 

حمد الناصري

هز أحمد رأسه.. وتمتم :

ـ ما زال في العُمر مُتسع لتدارك ما استبدّ بأهل قريتنا، لن أدع مثل ذلك المَشهد يتكرّر حتى وإنْ غادرتْ روحي مثلهم.

تذكّر حكاية سلمان وأبيه والتي تناقلتها الألسنة وأشِيع خبرها الجديد، وتساءل مُحدثاً نفسه، لماذا استقبلت القرية جدّ سلمان وضَمّته إليها، وصار أبناؤه وصْمة عار على القرية العالقة؟.

في قريتنا رجال لهم تأثير كبير على القضايا الجِسام، فلماذا سمحوا بإثارة الغُبار على أهل قريتهم.؟ لماذا سكتوا عن الذين أثاروا الفوضى بين صُفوف الرجال.؟ أم هيَ فوضى مُدبّرة؟

قال أحمد وهو يستعرض الحكاية في خياله :

ـ أتذكّر يا خالي وأنا طفل صغير، موقفاً يوم أنْ ضرب أبو سلمان بيده على الأرض، وأخذ حُفنة من تُراب القرية، وذرّها أمام جمع من الرجال.. وقال وهو يُقبّل التراب.. لن نسلكَ ما سلكه الغير، ولن نُخفي شيئاً عن أحد وسوف نَجهر بقوة، فكُلّنا سنموت يوماً وكُلّنا سَنُدْفن فيها.. فلا ربيع باقٍ ولا صَنيع تالٍ.؛ أليس في ذلك من حُبّ وانتماء للقرية بحكم أنه استوطنها، وأعدّها كوطن في قلبه وعقله ونفسه.؟

ـ أنا معك يا أحمد، ولكن -وكما علمت- أنّ بعض الرجال خوّن رجال ذو ثقة وقوة ومكانة، وخلق بعضهم فتنة قاسية على واقع قد تضعضع وتفرّق، وأثيرتْ فوضى امتدّ أثرها إلى الداخل وانقسمتْ القرى الجبلية وسلسلة جبال الحَبل السري المُتصلة بقرى المُهادنة والساحل.

ـ ألم تقل يوماً إنّ كلّ عمل قاسٍ له أثرٌ مشين، وسوف يمتدّ إلى الأجيال اللاحقة.

ـ نعم.. الرجال هم الرجال وإنْ اختلف الزمان والمكان. وكلّ حاجة مدسوسة لا خير فيها.

ـ خالي حمود.. أين هم عُقلاء القرية، في الحلّ والعقد؟ أين هُم الغيورون على أهلنا في النجدة والعدل.؟ لماذا تركوه يتعدى على حرمة الناس والدار؟ أليس من الحكمة بمكان، بأنْ نُدافع عن ظُلم الآخرين عن قريتنا وأهلها.؟ أليس من الدّين أنْ نذود بالمال والأنفس ونصون كرامتها وعزّتها برجالنا.؟أاليس في هذا ظُلم كبير على القرية وعلى الناس؟

صَدّقني خالي، لا أكاد أفهم تواطؤ الرجال في قضيّة سَلمان الشهابي للقرية؟

نكَّس حمود رأسه إلى صدره وراحة يده على جبينه، ثم أردف:

ـ يومئذ كنت أصْغر عُمراً من رجال آخرين في القرية، ولا شكّ أنهُ قد وصلني خبرٌ أنّ سَلمان الشهابي جاء إلينا كمعلم للقرية ولكنه لم يكن إلا مُعلم خائن، وكان لخيانته أثر على القرية، فقد تمدّدت وتوسّعت إلى أنْ صار له أعوان سُوء من جِلدتنا، ومن عُملاء سَلمان رجال بائسين، من القرى المُهادنة والذين كانوا على اتصال بقرى الساحل، رجال ضَعيفةٌ نفوسهم، ويا للأسف أنّ قُرانا تلتصق بقُراهم، بل ومِمّا أحزنني وأثار سَخطي وغَضبي وزادني حنقاً وغيظاً، حين وقفتُ على سلسلة جبال قريتنا، وعرفتُ بأنها ترتفع قليلاً عمّا حولها من أرْض القرى المُهادنة والساحل، وكان رأس الجبل قُبالة القرية العالقة وبقيّة مُتناثرة من قرى البحر المُدبّب، ترتفع وتعلو وتنحدر كمهبط سري، وقد أطلق عليها الراحلون والمُسافرون والمُستكشفون بـ فكّ الأسد وأنّ تلك المَهابط من السفوح والصُخور الحادّة كالحبل السري ترتفع إلى أعلى قِمة في رأس الجبل، ثُمّ يتدلّى الحبل الصخري طولا وعرضاً، على سفوح جبلية صمّاء، أقرب الوصف إلى مَشِيمة الجنين، لا يقطعها غير قرى الساحل كرحم طيّع ليّن، وقد وصفهُ احدهم،بأنّ الطول والعرض أشبهَ بفتحة المَشيمة للجنين وعند رأس فكّ الاسد تتنفّس الحياة، لكأنما ذلك الرأس الصخري المُدبّب مَصَبّ لكلّ القرى المُرتبطة بالحبل السري أو هو شريان لبقائها.؛ ولا ريْب أننا استفدنا من المُعلم سلمان كثيراً من عِلْمه وأفكاره النيّرة، والجميع قد أقرَّ بفضله، الصغير والكبير، النساء والرجال، فقد كان المُعلّم ليّن الجانب، حتى صار مَرجعاً للقرية!

ـ ولا أخفيك سِراً -خالي- فأنا أتساءل دائماً، لماذا أصبح المعلم سلمان بعد عقدين من السنين مَدسوساً؟ ومن الذي جعله مُخبراً وجاسوساً على أهلنا وقريتنا؟ ألا تتفق معي بأنّ في الحكاية شيء مِن غُبن.؟ أو رُبما هي فتنة أريد بها فساد الحياة بخلق ظروف مُعادية، مُتعصبة، بغرض جعل الناس في جهل مُستمر.

ـ نعم اتفق معك يا أحمد، وسُؤال تبادر إلى ذهني للتو، لماذا سَكت أهل قريتنا لسنين طويلة عن تلك الحكاية؟ ولماذا أُعِيد نشرها الآن، أليس في الحكاية شيء من تَخليق سوالف مُعقّدة، بقصد إشعال نار الفتنة بين الناس وبغرض تصادم القرى ببعضها وخلق واقع مُغاير لحياتهم المُستقرة؟

سكتا معاً.. أخذا يتبادلان النظرات بصمت.

قال خاله حمود مُبدّداً الصمت بينهما:

ـ حتى وإنْ ربط البعض، حرق البساتين ودمار حقول الورد والزهر، بحادثة خلق الفوضى وإشعال الفتنة بين القرى التي تجمعهم روابط الدم الواحد، فتلكَ ما هيَ إلاّ فتنتهم، زُرعت بخبث ومَكر، فهم يُخفون شيئاً من أصْلٍ قديم، ساهمت في خلق توتر استدعت الحماية والأمان.

ـ لكنّ الناس اليوم أكثر وعياً، فهم يُدركون بأنّ مُجتمع القرية العالقة هو صمّام أمان لمجتمعات القرى الصغيرة، فهذه القرى لديها الامان الدائم، فالعُرف بمثابة القانون والأخلاق شريعة مُتعددة الخِصال والقِيَم إيْمان يطمئن إليها الرجال.؛ وسيبقى الحال مُستقرّاً للقرى المُهادنة والساحل ما دام فكّ الأسد ثابتاً على قمّة الرأس الأعلى وستبقى مهابط الحبل السري قوة اطمئنان للقرية العالقة ورسالة أمان صادقة لقرى الساحل ومكان تصالح أعمق لمن حولنا.

ـ هذه العائلة -يا أحمد- جاءتْ على هذه الصِفة، وتتالتْ مَصائبها بالوراثة، إلى أنْ وصلت لسلمان الحفيد، الذي قام بالفِعْلة النكراء؟

ـ أنا أتفق معك خالي، ولكن لستُ مع الذين ربطوا حكاية المُعلم سلمان بالحكاية القديمة، فأنا أرى، أنّ مكاسب القرى الساحلية هو ربطها ببعضها، بعيداً عن محرقة الفتنة التي لا تُبقى نسلاً ولا تذر حرثاً.

قال حمود مقاطعا أحمد:

ـ أتفق معك يا ابن أختي، ولكنّ سُؤالي، ما هو السبب الرئيس في تدهور الحالة الداخلية؟ ولماذا اضطربتْ القرى المُرتبطة ببعضها؟

توقف بُرهة.. ثم قال بهدوء:

ـ نحن يا أحمد في مُجتمع القرية العالقة ورأس فك الأسد الأعلى، لنا الحقّ أنْ يَخاف أحدنا على قِيَمه وعلى أمنه ويتمسّك باستقراره؟ واتفق معك في كل ما ذكرته، لكن السؤال الذي يَشغلني، هل تغني القِيَم والأعراف عن الاخذ بالأسباب؟

سكت قليلاً.. شعر أحمد بأنَّ خاله حمود قد امتعض من أسئلته، فقال مُغيّرا الحديث:

ـ خالي، أعتقد أنك تتذكّر أنّ أبي يومها، قال بصريح العبارة، وأنا انقل لك كلام أمي.. أنا ضِدّ فكرة تَخوين سلمان على أثر حادثة الشك. وأرى أنّ الظن أمره مُشين ومُؤلم في حقّه. وأقول أيضاً -وعلى لسان أمي- لا أرى تَقييد عمل الخير بفعل فاعل؛ فالأمر صَعب وقاسٍ للغاية فلربما سلمان غير مدسوس وإنما هي فتنة أريد بها شرّ على قريتنا وطمعاً في خيرها، وعلينا أنْ نستيقظ من غفلتنا؟

هزّ حمود رأسه وبقيَ صامتاً.. وقال: مغيّرا الحديث بدافع تنشيط أحمد لكراهة المشروع الساحلي:

ـ نعم صدقت. وأنا على ثقة كبيرة بأنّ أباك عبدالله هو خير من رجال كُثر في قريتنا، رجل ذو حِكْمة.. إنك تُشبهه، عاقل ورزين وطيب المعشر، ظل يدافع عن القرية وأهلها إلى أنْ سقط ميْتاً على صخرة المشروع.

مدّ نظره إلى أحمد بُرهة من الزمن كأنه يتفحصه، ثم أردف:

ـ نعم، أتذكّر يومها، وقف عبدالله بقوة ضد المشروع الساحلي، لَبَدَ في مَكانه وكأنه لصقَ فيه.. كانتْ لَبْدةٍ أخيرة، وصفها أحد الرجال وصْفاً يليق بمقامها، كانتْ لَبْدةٍ مُؤلمة وقاسية كما لو أنّ نسْراً هلكَ فبقيَ على لَبْدته!

وعلى أثرها -على أثر لَبْدته- قد اختلف الرجال، بين مُؤيدٍ ومُختلف وبين ناصرٍ ومُتضعضع في نُصرته وبعضهم عبّر عنها بتلميحات أشارتْ إلى عدم اقتناعهم بالذين مكّنوا الشهابي الاول وحفيده سلمان الهارب من العيش في القرية. وطالبوا بمحاكمتهم.

التفت إلى جانبه وأغمض عينيه، وغمغم.. دَعني أسرد لك ما علمت من الحكاية وأشرح لك وقفة أبيك المُشرفة، وأفنّد لك ما حصل يومئذ.

يُتبع.. الحلقة السابعة.

تعليق عبر الفيس بوك