عندما يكون الـ"تعب" مريحا!

 

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

كانت جدتي -رحمها الله وغفر لها وأسكنها فسيح جناته- تحكي لنا عن تلك الأيام في فصل الصيف عندما ترتفع فيها "المزون" الضخمة من "العالي" بعد الزوال، فتبادر كل امرأة في "العراقي" لعجن العجين، وتركيب القدور على الأثافي لطبخ وجبة العشاء قبل هطول الأمطار، فكم من متأخرة غمر الماء حطبها، وأطفأ نارها وطفت قدرها فوق الماء فضاعت وجبة العشاء وباتت أسرتها في تلك الليلة جائعة، وكم كانت الـ"جرفة" قاسية لتهجرهم من بيوتهم ويلجأون إلى المرتفعات والجبال، كانت الحياة لدى الكثير منهم تقع ضمن رحلتي الشتاء والصيف،  ففي الشتاء يخرجون من النخل ليسكنوا في الظهرة (ظاهر البلاد) أو (الغبي)، وفي الصيف يبتعدون عن مجاري الأودية وضفافها، وتختلف أساليب العمران في عُمان باختلاف الطبيعة وطوبغرافيتها، ولكن يتفق الجميع أن الأودية مسارات يمنع السكن فيها نهائياً، ولكن الاختلاف يكمن في قوة اندفاع السيل بين السهل المفتوح الذي تتوزع فيه مياه الأودية منتشرة بالعرض، وبين الجبل من حيث محدودية المساحة فيتحول السيل العرمرم إلى طوفان يقضي على ما يكون في طريقه.

لِمَ لا تطرد عنك التفكير في صروف الدهر ونصب الزمان وتخرج من ولاية بوشر إلى ولاية قريات، إلى قرية وادعة تسكن بجلال هانئة في كنف الجبال على بعد حوالي 160 كيلومترًا من مسقط، حاملاً معك حذاء المشي الخاص وبعض الزاد، لتأخذك الدرب إلى جبل "فنس" في طريق ترابي مُمهد، وتنحرف يمينا ليزداد الطريق وعورة حتى تصل إلى قمة جبل "سلماه" حيث فتحة كهف "مجلس الجن" العلوية، هذا الكهف العظيم الذي يعد ثالث أكبر كهف في العالم، ثم تعرج لتشاهد مقابر "كبيكب" الأثرية، وتتأمل طريقة بنائها الصامدة أمام عوامل التعرية لمئات السنين التي تعود إلى حضارة "أم النار" منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، متسائلاً عن السبب الذي دفع العمانيين حينها لاختيار هذا الموقع الصعب ليدفنوا موتاهم به، وهذا الأسلوب الشاق لإقامة الأبراج الحجرية قبورا ينتقل موتاهم منها إلى العالم الآخر.

بعدها، عد أدراجك آخذا المنعطف جهة اليسار إلى الوجهة المقصودة، ثم قد المركبة مستمرا في التقدم في ذلك الطريق الوعر المنهك لتتوقف حيث تركن سيارتك وتترجل استعدادا للنزول من الجبل مشيا، فهناك وعند تلك النقطة ينتهي دلال التقدم والتكنولوجيا، وبحذر ابدأ المسير راجلا في ذلك الفالق الجبلي ليأخذك ذلك الهدوء الساحر الذي لا يقطعه إلا تغريد العصافير أو هديل الحمام أو خرير مياه يتردد صداه من بعيد، وأعشاب "الحماض" و"الحوا" وغيرها تطل بترحاب سخي بين الصخور عقب موسم ماطر تأذن لك بقطفها والتلذذ بطعمها، وبعدها ستبدأ رؤوس النخل تطل ملوحة بسعفها تدعوك  للتقدم، توقف لبرهة متأملا ذلك المنظر البديع الذي يجمع بين النخيل وأشجار النارنج وتلك البيوت الصغيرة المبنية في الجبل، ستشعر بأنك في عالم مختلف تماما، عالم يجمع بين الإنسان والطبيعة ليوحدهما معاً في سيمفونية متناغمة بعيدة كل البعد عن التكنولوجيا والعالم المتحضر الذي أتين منه، إنها قرية "تعب"، أقدم القرى التراثية في ولاية قريات، كانت هذه القرية تسمى "سبت" في القديم الغابر، ولكنها أتعبت سكانها لكثرة ما أعادوا تشييدها بعد كل فيضان أو طوفان (غرقة)، وكانوا كلما أعادوا البناء رفعوا مستوى المنازل عن مجرى الوادي، لتعرف لاحقًا بـ"تعب"، وتتطلب هذه القرية جهدا ومشقة لا بأس بهما للوصول إليها، وإذا كنت من هواة التسلق والمشي الجبلي ما عليك إلا أن تتبع الأسهم التي وضعها شباب فريق قريات للمغامرات لتصل إلى عين الماء التي تنساب رقراقة طوال العام وتنقسم إلى فلجين يسقيان الأموال النخيل في "تعب". ومما يجدر ذكره أنَّ أهالي القرية تركوها ليسكنوا في "فنس"، لكنهم ما زالوا يهتمون بنخيلهم وزروعهم ومخازنهم الجبلية في "تعب"، ويكرمون ضيوفهم إذا ما تواجدوا أثناء زيارة أحدهم ويجودون بما أثمرت زروعهم؛ وبعد أن تصل إلى عين الماء التي تنضح من جلمود صخر الجبل تتملكك الدهشة لروعة ذلك المنظر وتجد لسانك يردد بعد التعب: سبحانك اللهم، وتنتهي الرحلة بالعودة إلى سيارتك إما مختصرا عبر الوادي لتستكشف طبيعة المجرى المليء بحصى كبيرة ملساء، أو أدراجك من حيث سلكت، وقد حملت معك مخزونا من الجمال يمدك بالطاقة الإيجابية، وهنا تجد كم كان الـ"تعب" جميلا ومريحا.

--------------------

توقيع:

وما مجاهدةُ الإنسانِ توصِلُه...

رزقاً، ولا دَعَةُ الإنسان تَقطَعُهُ

والله قسم بين الخلقِ رزْقَهُمُ...

لم يخْلُقِ اللهُ مخلوقاً يضيّعُهُ

 

(محمد بن زُريق البغدادي)