المُقارنات المفتوحة

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

قد تُخطئ الحواس في كثيرٍ من الأحيان مع ثِقة بعضنا بصلابة صدق حواسِّه لقناعتهِ المبنية على مدركاتِه السابقة وتحقق مُعظمها، إلا أن الحواس خطَّاءة، ولولا أن العقل يتقدم عليها طورًا ما أقررنا بخطئها، كما أن المنهج العقلي هو الرقيب المصحح لأغلب أخطاء الحواس ومع كل ذلك قد يقع العقل أحيانًا في الخطأ بناءً على الأحكام التي تجري على كل الحواس وهو أمر إنساني وارد، لكنه خطأ وقع على الأمور البدهية وليس المعلومات النظرية الحضورية، فعندما يخاف الإنسان فإنَّ ذلك عِلمٌ حضوري لا يُمكن أن يصيبه خطأ أو ذرة شك، ولا يمكن أن أقول لشخصٍ جائع "كلا أنت لست بجائع وإحساسك هذا خاطئ"، ونفس القول يندرج على القلق إذ إنَّ هامش الوقوع في خطأ تفسير الأحاسيس ذات المعلومات الحضورية ضيقٌ جدًا ومحدود عند البالغ الراشد، لكنَّ هامش الخطأ في المعلومات البدهية الحصولية واسع ومتباين بحسب قوة الإدراك وضعفهِ في الذهن، فمثلًا قد يتحصلُ أحدنا على قولٍ أو تصريحٍ من شخصيةٍ لها وزنها في المجتمع وتحاول إقناع العامة بالحد الأدنى للدخل أو الأجر وكفايتهِ لكل متطلبات الحياة، فتُستنفر فرائص حواسنا بشكل هجوميٍ ورافضٍ لتلك المحاولة الإقناعية، لأنها تصلُ مُباشرةً إلى ملامسةِ الجانب النظري الحضوري من العقل.

ما أغرب أن يَعقِل العقل ذاته ويدفع به للتفكر في نفسه، وما أغرب أن تقع شخصية مرموقة في الهامش الواسع للبدهيات وقد لا تعي تمامًا معنى الخوف من توفير لقمة العيش في حده الأدنى لتستثير حول نفسها موجة من الحنق والسَخط كان بمقدورها تجنبه بشيء من الحكمة، لكنها كلماتٍ أصابت من أصابته مَخمصةِ الفاقة جراء دخله الأدنى في مقتلٍ ولن تخونه حواسه مجتمعةً من فهم معنى الجوع ولن يخطئ في إدراك معنى القلق المتواصل من شبه استحالة توفير أبسط احتياجات عياله وأهل بيته.

آنستُ في المختصرِ السابقِ أعلاه استحسانًا لما سأزدلفُ به في اللاحقِ أدناه استرسالًا، وحتى لا أشيح عن أصلِ الموضوع بتشعباتٍ تُشتت التركيز، فقد آثرت تأطيره في فهم عمق الفكرة بعد محاولة تأصيل المفهوم في جزئية الحواس والعقل، ونتطرق للمستأنسين من المتحدثين على المنابر الإعلامية تحت الأضواء المشرقة عن هموم تلامس شريحة كبيرة ربما هي الأكثر أهمية في المجتمع والمعول عليها في استمرار دوران عجلة الحياة والتنمية، وهي الأبعد تطلعًا لبناء مستقبلها، وهي الأعظم انفتاحًا ودراية بنظرية المقارنات والمنافسات.

لا تزال حواسنا في مرمى تهديف بعض المستروحين للحديث عن تبسيط مفهوم الحد الأدنى لدخل الفرد ومحاولة إقناع عامة الشباب بمعيشة الزهد والتخفف من ملذات الحياة والرضا بالقليل والأقل من القليل قليلًا، لكن دون الإشارة لمدة زمنية لتلك المكابدة ولتبقى نهاية حياة الكفاف ماضيةً إلى المجهول، ويستمر مسلسل استهداف الحواس متواصلًا من البعض لإصابتها وتجريحها للنيل منها بقصدٍ أو بلا قصد، فيطلق مقارناته المفتوحة بدولٍ أخرى دون تحديد تلك الدول -فذلك لا يجوز- من باب النزاهة المهنية، وقد غادر مبدأ الشفافية مغاضبًا تلك الجلسة بلا رجعة، وعلى المُستهدف الآن سبر أغوار تلك المقارنات والبحث والتقصي عن الحدود الدنيا لدخل الفرد في الدول المجاورة جغرافيًّا سواءً على اليابسة أو ما وراء البحار، كما يتوجب على المُستهدف فصل الدول الغنية عن الفقيرة وفهم ميزانيات واقتصاديات تلك الدول حتى يتمكن من الوصول إلى المعيار العام للحد الأدنى، وإذا صادفته مصطلحات تُسمى بخط الفقر والفقر المُدقع والحد الأعلى فعليه عدم الالتفات لها لأنها لا تدخل في المفهوم العام للمُقارنات حتى تطمئن حواسه ويُكذب علومه الحضورية التي يعيشها فيقبل عقله بوقوعه في هامش الخطأ الضيق.

نعم؛ هذا القَلق غير حقيقي، بل هو وهمٌ اصطنعه عقلي ليُقنع نفسي في حديثهما الخاص معًا، لا يهمني فهما لا ينفكان يفعلان ذلك في اليقظة والمنام، ولكن بعد الحديث الموزون لتلك الشخصية المرموقة سأحاول إقناع حواسي وعقلي بأنَّ الحد الأدنى من دخلي الذي كنت أعتقد أنه متواضع سيفي بالغرض، وسيكفي أبنائي ومتطلباتهم المعيشيةِ والمدرسيةِ وسيزيد عن حاجة أهلي بعد تلذذهم بأصناف الأطايب من مطعمٍ ومشرب وسيكفي لسداد فواتير الماء والكهرباء، وأما الفائض منه فسوف يكفي جدًا لشراء سيارة جديدة ولن أحمل هم الوقود، وما زاد منه فسوف أوجِّهه للادخار، نعم الادخار هكذا تفعل الشعوب المتحضرة لضمان مستقبلي ومستقبل أبنائي وسوف أبني لهم منزلًا خاصًا وفارهًا في أجمل المواقع وأتخلص من مُطالبات المؤجِّر إلى الأبد؛ هنا تصل رسالة نصية بقطع خدمة الهاتف لعدم السداد.

دارت هذه الفكرة عندما كان عقل أحد ذوي الحد الأدنى للأجور يحاول فرضها على نفسه حتى يصل لمفهوم القناعة التي يصرح بها البعض بالخط العريض وتطير بها ركبان مواقع التواصل الخافقين وتتباين ردود الأفعال عند المتلقي؛ حيث يبدو أنَّ معظمهم لم يقتنع، فهل المشكلة في حواس وعقل ذي دخل الحد الأدنى شخصيًّا أم في نفسه وهو لا يستطيع الاتصال ليتبين الأمر من ذوي الاختصاص لانقطاع هاتفه، أم هي عند كل من يرفض تلك المقارنات المفتوحة؟!

ولن يتفق الناس على خطأ.