"صالون سعيدة خاطر" يحتفي بطاقتين إخراجيتين من الشباب الواعد

"مسافات طويلة: مشروع خط الوثائقي".. إبحار نقدي فوق أمواج الحنين إلى "الحياة المفقودة"

 

◄ سماء عيسى: القصابي والبيماني أبدعا في صياغة أرضية مشتركة تنطق باندثار حياة بأكملها

◄ مونولوج من الحزن والأسى في "مسافات طويلة" يعكس سمات أبناء الجبال وروح العزلة

◄ "آخر الباقين" يرصد تجربة حنين مرضي إلى الماضي الذي لن يعود

 

الرؤية - هيثم الصبحي - كوثر المعشرية

نظَّم صالون سعيدة خاطر الثقافي، احتفائية بعنوان "مسافات طويلة: مشروع خط الوثائقي"، للاحتفاء بالمخرجين العمانيين حمد القصابي وعلي البيماني، الحاصلين على جائزة النخلة الذهبية للأفلام الوثائقية، وذلك تحت رعاية المكرمة بدرية بنت إبراهيم الشحية نائبة رئيس مجلس الدولة، وبحضور عددٍ من المثقفين والناقدين السينمائيين والممثلين.

بدأت الاحتفائية بكلمة ترحيبية من الشاعرة سعيدة خاطر؛ عبَّرت من خلالها عن شكرها لضيوق وحضور الأمسية، وقال: سعدت للغاية بأن تعرفت على شباب لهم هذا الإبداع الذي سجلوه داخليا وخارجيا، كانت بدايتهم متواضعة ثم ارتفعوا وارتقوا، والشابان يستحقان الوقوف بجانبهم، فقد أسَّسا مشروع خط للأفلام الوثائقية، أبدعا من خلاله بما يحملانه من فكر عميق لخطواتهما القادمة.

تلى ذلك، عرض مرئي عن شركة خط للأفلام الوثائقية؛ أوضح فكرة الشركة وأهم أعمالها، وأشار صانع الأفلام حمد القصابي إلى أنَّ أهم الأفلام التي أنتجتها "خط" في ثلاث السنوات الماضية "سيارة حامد" والذي فاز بعدة جوائز محلية ودولية، وفيلم "آخر الباقين" وفيلم "مسافات طويلة" الذي حاز النخلة الذهبية بمهرجان السعودية للأفلام الوثائقية. وذكر القصابي أنَّه خلال هذا العام 2023/2024 هناك عدة مشاريع قيد العمل تتمثل في 3 أفلام وثائقية مقسمة بين ثلاثة مخرجين، ونتطلع لأن يتم تجهيز هذه الأفلام قبل مطلع العام 2024.بعدها، تمَّ عرض الفيلمين الوثائقيين الفائزين.

 

لفتة نقدية

بعدها، قدَّم الناقد والسينمائي سماء عيسى لفته نقدية عن الفيلمين؛ قال فيها: الفيلمان مختلفان في الظاهر، متفقان في الباطن، فيلم "آخر الباقين" يذهب بك إلى نهايات جيل مضى، و"مسافات طويلة" يأخذك إلى بدايات حياة جديدة مثمرة للعداءة العمانية سعاد النصبيية. وأضاف: أعتقد أن ما علي اكتشافه ومن ثم تتبعه ليس التناقض الظاهري بينهما، بل الأرضية المشتركة التي تجمع بينهما؛ لذلك أتحدث بادئا عن حب الأرض الذي يجمع أبطالهما، ففي فيلم "آخر الباقين" يلتزم من تبقى في سوق بهلا بعلاقة روحية عميقة بينهم وبين السوق القديم الذي يكاد يكون مهجورا كليا إلا منهم، وهم الباعة به منذ نصف قرن أو أكثر، هذه ظاهرة انتشرت ابتداءً من ثمانيات القرن الماضي؛ حيث أتت الحياة المدنية الحديثة على معظم معالم الحياة التاريخية للعمانيين عامة، ولم يكن أحد آنذاك وقليل منهم اليوم من تحدث عن ضرورة الحفاظ على كل جدار أو برج أو مخطوطة تركها لنا أسلافنا، ليس بدافع الحنين الرومانسي فحسب، بل بدافع الإنصات لصوت الماضي المتدفق في دمائنا، واعتباره الأساس الصلب الذي نبني عليه مستقبل حياة أجيالنا القادمة.

وتابع عيسى: الحب الذي يجعل من العداءة سعاد النصيبية عاشقة لمهنة الرعي التي ولدت وكبرت عليها، عاشقة للجبال التي تربت بها وأعطت لها القوة في التحمل والإرادة في قهر الصعاب والجرأة والإقدام على تجاوز المألوف إلى رحاب أبعد وهو الجري لمسافات طويلة في حالتها، فيما يتحدث الباعة عمَّا مضى من العمر وعن السوق الذي كان روح بهلا ذات يوم، هكذا يقدم لنا الحوار الهادئ لهم مونولوجا من الحزن والأسى لا تبتعد إلى نقيضه سعاد، فهي في النهاية ابنة الجبال العمانية التي لا تقدم للمرء الضحك المجاني الذي يرافق الحياة في المدن الحديثة.

وأسهب سماء عيسى قائلا: يظل الحزن أيضا سمة خاصة لأبناء الجبال وهم يتحدثون عن المحل الذي يحدث بين فترة وأخرى، وهي -أي سعاد- التي تتحدث عن الحنين إلى الجبال وطفولتها وصباها بها، الجبال الصخرية الجرداء أعطت العمانيين روح العزلة وتقديسها، رغم أنها أبعدتهم عن الاحتكاك التاريخي بالعالم الخارجي، كما هو في أبناء السواحل والأودية المهاجرين إلى شرق إفريقيا وآسيا، وصولا للهند والصين، روح العزلة والتمسك بالأرض الجبلية الجرداء أبعدتهم أيضا عن تاريخ الحروب القبلية الدامية في الأودية والسهول. لقد قدم رجال ونساء الجبال فنونا شجية تعبر عن حزن عميق؛ مثل "تعويذة الحطابات" و"فن الرواح" و"فن الدان" في جبال مسندم، وفن "الدبريرت" و"الدان" في جبال ظفار. وأشار عيسى إلى أن فيلم "آخر الباقين في سوق بهلا" ينطق باندثار حياة بأكملها، الوجوه يكسوها البياض والأغلب منحني العظام منهم من يتكئ على عصا تساعده على السير. وتابع قائلا: الفيلمان تجربة إبداع وثائقي لن يتكرر، تجربة حنين مرضي إلى الماضي الذي لن يعود، التمسك بالحاضر يعني التمسك بالماضي، إذ ليس هناك مستقبل قادم لسوق تنطفئ أعمار أبنائه الواحد تلو الآخر، المستقبل هو محل اهتمام الراعية وزوجها العداء، لكن الماضي لدى سعاد يظل مصدر الغذاء الجسدي والروحي؛ أي أنها هي الاخرى تعيد للمكان الجوهر الحقيقي الجذري لاستمرارية الحياة.

وأوضح عيسى: الملاحظ نقديا في فيلم "آخر الباقين" أن شخصياته تكرر نفسها، وكأنك بذلك أمام شخصية واحدة، إذ الجوهر هو المكان الذي يفقد أبناءه رويدا رويدا، انطفاء المكان يعني انطفاء الإنسان، يعني انطفاء الحياة. بخلاف ما نسميه بالحنين التاركوفسكي في السينما، حيث إنه في ذلك الفيلم يكون الحنين إلى المكان من خارجه، ومحاولة العودة إليه التي تبوء بالفشل هي ما يخلق حنينا مرضيا لا سبيل لتجاوزه، طبعًا مع الاشارة إلى أن البعد التاركوفسكي عن المكان كان إرغاما من السلطة السوفييتية ضد المخرج السينمائي المتميز أندريه تاركوفسكي، أما هنا في فيلم "آخر الباقين"، فالحنين يتشكل وينمو لأناس في مكان ما، ليضفي على حنينهم صبغة الحنين للحياة المفقودة التي أتت عليها مدنية جديدة ألغت دورهم التجاري والمعيشي نهائيا، وإصرارهم على البقاء محاولة للإمساك بتلابيب الماضي والحاضر الذي يفر أمام عيونهم وقلوبهم يوما بعد يوم؛ لذلك جاءت أحاديثهم تلقائية، تفصح عما بأعماقهم من ألم وحنين دون تخطيط مسبق، وهذه مزية مهمة حققها كاتب السيناريو، جاءت لتؤكد إقفال محلاتهم وإنهاء تجارتهم بعد الموت فقط.

واختتم سماء عيسى بالقول: أود العودة لجملة مدهشة في مسرحية "حكاية الشتاء" لشكسبير، وذلك لاقترابها الحميمي من فضاء التجربتين الخلاقتين "آخر الباقين" و"مسافات طويلة"؛ والجملة هي: "أنت التقيت بما يموت، وأنا التقيت بما يولد"؛ يتحدث عن ذلك بعمق نقدي أخاذ الناقد جان ستاروبنسكي مقدما الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفرنسي الكبير إيف بونفوا، واصفا إياه بالشاعر الذي آمن بحركة التواصل بين ما يموت وبين ما يولد؛ إذ إنَّ الشعر لديه يتأرجح دوما بين الحياة والموت، بين الخلاص القادم كما هو في فيلم "مسافات طويلة"، وبين الموت الراحل كما هو في فيلم "آخر الباقين"، هكذا لنتأمل عالمنا بوصفه كلا ومعنى، وليس التجزؤ، وبهذا تتضح العلاقة الحميمية بين التجربتين، وهذا هو سر ديمومة الحياة وتجددها.

بعدها تم فتح باب النقاش أمام الجمهور، قبل أن تكرِّم راعية المناسبة المخرجين الواعدين حمد القصابي وعلي البيماني، وبطلة فيلم "مسافات طويلة" سعاد النصيبي، ثم هدية تذكارية لراعية المناسبة.

تعليق عبر الفيس بوك