القلم داخل المطبخ

 

علي بن سالم كفيتان

القلم كالسيف يفقد قيمته المعنوية عندما تستخدمه في المطبخ لقص البصل وبقية عائلة الخضار؛ لأنه يتعود على ليونة تلك النباتات الغضة فيتمرغ فيها يمنةً ويسرةً محققاً إنجازات لا تتعدى الجزرة الهرمة التي باتت لا تصلح لشيء سوى لهرس الثوم. كنت فيما مضى أتابع عددًا من أرباب القلم، فتأسرني بعض أطروحاتهم، لكنني لم أتوقع التدفق المفاجئ للحبر من فوهة تلك الأقلام لتغرق أرجاء الصفحات بكلمات لا تنتمي لحياة الناس ولا تتوافق مع معاناتهم ولا ترقى إلى طموحاتهم وآمالهم. لقد بات الحبر شاحباً رخيصاً يختفي قبل أن يُوصل عامل الجريدة النسخة إلى صاحبها؛ فشمس الصباح تلعق حِزمة الجرائد المعلقة على ظهر الدراجة النارية التي تمخر شوارع المدينة وأزقتها. لقد استلهمت مقال هذا الأسبوع من رجل عُماني مسن يجلس على تخت خشبي إلى جانب بقالة حارته القديمة، منتظراً نسخته الورقية من الجريدة، ليقلبها بعد أن ينصب نظارته الطبية السميكة بعناية مُتخطياً الصفحات الأولى التي تنقل في العادة أخبارَ العاشرة ليصل إلى صفحات العمق التي تحمل آراءَ الكتاب، يطلب من العامل الآسيوي في المقهى المجاور كوبًا من الشاي الأحمر ليطالع نتاج المفكرين، ودرجت العادة أن يقطع بعض المقالات قبل أن يغادر ويدسها في جيبه، تاركاً بقية الصحيفة لمطعم القرية لاستخدامها كسماط مفضل للزبائن في هذا النهار القائظ. لقد ترك العجوز الجريدة بكاملها على غير العادة، ولم يبتلع جيبه مقالًا واحداً، سأله النادل وهو يلاحقه بعد أن غادر متثاقلاً على عصاه: الجريدة ...الجريدة، فقال له دون أن يلتفت: لم تعد بي حاجة إليها، وزعها على طاولات زبائنك هذا النهار!

هل بات البعض يفهم الرأي والرأي الآخر بأنه صدى الصوت الأعلى الممكن بكل الأدوات (صانع المحتوى)، أم أنه انعكاس للآراء المتشائمة التي لا تقبل إلا رؤيتها الظلامية، أم أنه رسول المهمَّشين والمحرومين، أم لأناس يتحدثون عن قضايا ميتة لا تعنينا بحق، بات هناك لغط كبير يتجاذب أصحاب المحبرة والقلم، وهذا ليس بجديد في عالم الفكر؛ فالأمم الحية تخطب ودهم وتفرش كل ما تستطيع لتدفق حبر أفكارهم إلى السواقي التي يراقبها بعناية عريف الفلج، فهو الوحيد الذي يملك توقيت النهار الدقيق وحساب زوايا الشمس وحصص أصحاب البساتين، قيل لي إن بعضها جفَّ وأكلته شمس القيظ، والآخر تفيض من جوانبه كل أطاليب الدنيا، فأين يكمن الخلل: هل في حسبة العريف، أم طول السواقي التي تتبخر منها المياه قبل أن تصل إلى بقية البساتين على أطراف المدينة؟ المفكر لا ينقب عن الأخطاء، لكنه ينصب نفسه رقيباً نزيهاً على سير حركة المجتمع وسلامة العلاقات المتبادلة، ويقدم هذه الخدمة المجانية مقابل ضمان حرية فكره وسلامة توجهه عبر منارات فكرية تحافظ على استقلاليتها وحياديتها؛ بحيث يشكل المثقف سنداً للسلطة ونصيرًا للمجتمع.

تُقدِّر الحكومات النزيهة فكر الأدباء والمفكرين، وتضعهم في المكان الذي يليق، ليس خوفاً من لسع أقلامهم، بل لليقين بأهمية وجودهم كأداة رقابية فاعلة تُسهم في رفع مستوى النزاهة والشفافية عبر منحهم الأجوبة الشافية على تساؤلاتهم، وتقدير مواقفهم وآرائهم، فغالباً التعتيم يولد كتابات عمياء كالذي يمشي في الظلام مغمض العينين لا يستخدم إلا يديه للمس الأشياء للتعرف عليها، وعندما تكتب عن الأشياء التي لامستها يقال لك إنها ليست هي، فيعود للمغارة باحثاً عن حقيقة جديدة لتبصير بقية المنتظرين في الخارج. إنَّ هذا  الحديث الأعمى بين أصحاب الفكر وصناع القرار يُولِّد آراء متضاربة وحقائق غير متجانسة، فلماذا الخوف إذا كنَّا نعمل بصدق؟ ولماذا التعتيم إذا كنا نعمل في الشمس؟ مثل هذه التساؤلات تشغل بال المفكرين وتضعهم في كثير من الأحيان في زوايا صعبة تُهدِّد بقاء الفكر الحر النزيه، وتفتح المجال واسعا للتكهنات في وقت يمثل فيه الإعلام المتزن بوصلة بلوغ الغايات وتحقيق الطموحات ونجاح الإستراتيجيات.

إنَّ الإعلام الحديث يرتكز على معرفة توجهات الرأي العام من حيث قياس مدى الرضا الحقيقي للمجتمع عن السلطة، والخدمات المقدمة، ومساحات الحرية المتاحة، بكل شفافية، وهذا لا يتم إلا عبر استطلاعات رأي مجردة من التصرف، تنقل الحقائق كما هي، لتعالج مكامن الخلل وتعظم نقاط القوة بكل حيادية، ونحن كمجتمع صغير وفتي تلهمنا التجارب العاطفية أكثر من المنطقية.. فهل توجد منطقة وسطى يمكننا التحرك فيها؟