علي بن سالم كفيتان
كان خيار النزوح المتاح هو إلى المهرة، وتحديداً قرية حوف اليمنية، فالصراع بات محتدماً ولا مجال للمناورة بين الطرفين إلا لشخصيات سيظل يذكرها التاريخ تمسكت بروح الحياد الإيجابي، وأسهمت في التخفيف من وقع المعاناة الإنسانية للنازحين، فقد صمدوا على قارعة الطريق غير آبهين بعدد القادمين أو المغادرين سوى من خلال الإيواء والإطعام، وكتب لي العُمر أن أشاهد أحد هؤلاء الرجال العظماء في منتصف ثمانينيات القرن الماضي لقد بلغ من الكبر عتيًا ورغم ذلك لا يزال متمسكاً بطريق النازحين والمغلوب على أمرهم ولم يُبارح كهفه وقطيع أغنامه، وفي كل لحظة ينادي للهنوف "عنوف" بصوته العالي احلبوا للناس.. هل ضيفتم الجميع؟ وهي تأتيه على عجل وتجلس جنبه لتجيبه بنعم، فسمعه لم يعد يسعفه لسماعها من بعيد، ليعود بعدها إلى مكانه صامتاً مترقباً لما يجري حوله.
ظلَّ بر فيخيت رحمه الله مُرابطاً على طريق القوافل في وقت الجوع ليطعم الناس، يأتيه القاصي والداني فهو ثابت كجبل عفول لا يتزحزح، وواسع ككهف أحيف في قاع الوادي الذي وجد فيه العابرون ملاذًا من الخوف والجوع؛ حيث تحكى الحكايات وتنسج القصص حول عظمة الرجل وكرمه وشجاعة ابنته الوحيدة؛ فقد أصبح المكان يعجُّ بالمرضى من الشيوخ والنساء والأطفال الذين لم تسعفهم أرجلهم لتكملة المشوار إلى مخيمات حوف، رجال ونساء من كل الأطياف الاجتماعية في ظفار، أحبوا الرجل الصامت وابنته اللطيفة، وسكنوا إليهما لأيام، وفي وقت الرحيل يذرفون الدموع عند المغادرة تتبعهم الهنوف لتغطي ذلك الطفل وتضع في يده كسرة خبز تُعِينه على تكملة المشوار الطويل، جميعهم ينزفون مشاعرهم الحزينة خلفهم على الطريق، متسلحين بالصمود الأسطوري لذلك الرجل وأسرته العظيمة على مفترق الطرق.
لقد حافظت الأطراف المتصارعة على بقاء الرجل؛ فالجميع له مصلحة في وجوده، فهو لم يكن محسوباً على طرف دون آخر، لقد كان رجلاً ظفاريًّا يُكرم الضيف وينصر المظلوم ويغيث الملهوف، لديه حساباته المختلفة البعيدة كل البعد عن المكسب والخسارة، قال لي ذات مساء في آخر لقاء بيننا -كُنت في الثانوية آنذاك وهو رجل كهل ذو سمع ضعيف: يا بني إذا هرب الجميع فمَنْ الذي سيبقى؟ ذكر لي بعض الأطباء الذين أتيحت لهم فرصة التعليم انطلاقاً من مخيمات النزوح في اليمن أنهم مروا على محطة سالم بر فيخيت، ولا يزالون يذكرون لطفه معهم وهم أطفال نازحون بلا أهل في كثير من الأحيان البعض عندما يمر اليوم هناك يقف دقيقة صمت يدعو له بالرحمة والمغفرة، لقد ذهب الرجل ولم تُطوَ سيرته العطرة.
يُقال إنَّ أغنام بر فيخيت لم تخذله يوماً عن إكرام ضيوفه، وهناك من يتحدث عن كرامات للرجل، ولقد ظلت وحيدته الهنوف (عنوف) مُمسِكة بتلابيب كرم أبيها إلى اليوم، رغم تغيُّر الزمن؛ فالسلالة ما زالت ترعى في نفس المضارب والتخوم، والناس ما زالت تتعنى للديار، والكرم ما زال في دار الهنوف وأبنائها الغُر الميامين، فقد التقت جبال الكرم من البادية والريف لتحافظ على سيرة الجد واستكمال رسالته العظيمة؛ فمثل هؤلاء لا يطويهم الزمن لأنهم كانوا مُؤثرين ورسموا الصورة الإيجابية في أحلك الظروف، فما أحوجنا اليوم لهذه السير المُلهمة.
مررتُ بديار العم سالم بر فيخيت -عليه رحمة الله- وأنا في طريقي إلى الغربية، فاستحضرت المشهد الذي جمعني به قبل 38 عاماً تقريباً وهو في آخر أيامه، فأوقفت مركبتي جانباً وترجَّلتُ إلى حيث التقينا في المرة الأخيرة، تمعَّنتُ في المكان وتصورت لو نقشت سيرة الرجل على لوح رخامي ليحكي للأجيال الصمود في وقت الأزمات والعطاء في وقت الحرمان ومنح الأمان في أيام الخوف، ولا شك أنَّ هناك الكثير من السير العطرة لرجال ونساء آخرين على طول طريق النزوح إلى اليمن قدموا كل ما يستطيعون للنفوس العابرة إلى الضفة الأخرى بحثاً عن الأمان، وسواء كتب التاريخ عنهم أو لم يكتب فسيرهم خالدة في الأحاديث المروية، ومعروفهم باقٍ مع كل من عبر تحت خط النار إلى بوابات الأمل.