ماجد المرهون
majidalmrhoon@gmail.com
في لحظة ضعفٍ وانكسارٍ لا تليقان برئيسيات العالم القديم، تدارست مجموعة الغابة الغربية فكرة الانتقال للعيش في منطقةٍ أخرى، وقد تكون بعيدة عن موطنها إلا أن "السعادين" مستعدة للتنازل عن لياقاتها السلطوية وتكبُّد عناء المشقة هربًا من الظلم والاضطهاد الذي تمارسه عليها بعض الحيوانات المناوئة لها في أماكن نفوذها، وبات هذا الاعتقاد سائدًا لدى مجتمع السعادين، وبما أنها لا تعي معنى إفسادها للزراعة والمحاصيل وتخريبها لممتلكات الغير ثم الاستيلاء عليها، فإنها تُشرع لنفسها تلك الأفعال باعتبارها طبيعية وحقًّا مُكتسبًا من حقوقها، وهذا يناقض اعتقاد كل الحيوانات المتعايشة في ذلك المكان، والتي ضاقت بها الحال ذرعًا من تكاثر أعداد السعادين وأصبح قربها الوشيك من عرين الأسد يدق ناقوس الخطر وقد يُؤهلها ذلك التقارب من السيطرة على القرارات السيادية؛ الأمر الذي سيمكنها من مواصلة استبدادها ليتعاظم معه طغيانها حتى تستأثر بالنصيب الأكبر من الأراضي والموارد وربما كلها.
تمكنتِ السعادين بالفعل وبذكاءٍ يثقب اللؤلؤ من إحكام سيطرتها على صناعة القرار، لينبري أحد أعلامها المشاهير في يومٍ من الأيام جذلان ومبشرًا إياهم بأرض جديدةٍ، وهي بعيدة عمليًا إلا أنها جميلة وكثيرة الموارد ولن ينافسهم فيها أو عليها أحد والمغامرة تستحق العناء، وقد ثنَّى الأسد والعقاب والديك على وعد السعدان الشهير وصدرت مُباركة النسر في اليوم التالي بسبب تواجده بعيدًا وانشغاله بشؤون لا تقل أهمية، وقد عرضوا جميعًا وبسخاءٍ كل ما من شأنه تذليل الصعاب في حال موافقة السعادين على الهجرة إلى تلك الأرض الجديدة الجميلة تحت شعار الحقوق الحيوانية؛ ربما اعتقدت السعادين في خضَّم هذا التفاعل الكبير أنَّ حب الجميع لها هو الدافع الرئيس لمساعدتها على هذه النقلة التاريخية، لكنَّ الحقيقة كانت في جوف العارف الحكيم.
عندما كانت السعادين تنقسم إلى مجموعتين، الأولى تُجمع أمرها النهائي بين تردد الذهاب والبقاء والثانية تحزم متاعها بين مغادر ومودع، إذ خرج بين ظهرانيهم العارف الحكيم أبو قشة، وهو سعدان قد تقعرت عيناه في غوريهما وأحدودب ظهره كالعرجون وتقدم به العمر كثيرًا وحفرت بين ثناياه وأعطافه تجارب السنين وتراكمت في ذاكرته خبرات الحياة فقال:
"يا معشر السعادين، اسمعوا وعوا إن كنتم فاعلين، قد يتبادر لأذهانكم أن ما تسمعونه وتشاهدونه حقيقي وهو ليس كذلك، فلا تكونوا للوعود الواهية من المُصدقين، وإني لكم لمن الناصحين، فإن ذهبتم لن يطول بكم المقام على الأرض الجديدة، وإن طال فهي مسألة وقت فقط، وإنما أرادت حيوانات الغابة التخلص منكم إلى الأبد، إذ تعتقد أنكم مفسدون وأنتم الأكثر ذكاءً وحظوةً ومُكنة، فلا تتركوا أرضكم سعيًا وراء المجهول مقابل وعودٍ غير مضمونة النتائج، كما أن تجمعكم في بقعةٍ صغيرةٍ من الأرض سيُسهل عملية انقراض مجموعتكم من قِبل الغرباء المحيطين والمتربصين بكم من كل جانب، وبلا شك ستبقون غير مرحبٍ بكم ما بقيتم وأنتم تستنزفون معائشهم وتستهلكون مواردهم فأنتم الغرباء والدخلاء، وسوف يتولد لديهم شعور الكراهية ضدكم وسيتطور مع مرور الوقت في أجيالهم القادمة، ولن يُنظر لكم إلا على هيئة معتدٍ أو فريسة؛ لقد تسنى لي زيارة تلك الأرض الجميلة الحالمة مرتين إبان شبابي ولكن لم أتمكن من الإقامة بها طويلًا لأسبابٍ كثيرةٍ؛ أهمها: وجود دبابير نارية بأعدادٍ لا تُحصى، وإن لسعات الكبير منها كلفحات جهنم تودي بالدخيل إلى الويل، وإن لم يهلك فإن يعاسيبها الصغيرة ستتقاطر في عقله بنوبات رعب كالجحيم وتجاذبات الهلع والحالات النفسية التي تقض مضجعة، وهذا ما حدث لي في زيارتي قبل سنينٍ خلت وكانت الأخيرة، وما ترونه ليس من آثار السنين كما يُقال بل هي ندبات وصمتها الدبابير القاتلة على جسدي وقد كنت محظوظًا لأقف أمامكم اليوم".
يبدو أن نشوةِ فصيلة البَشرانيات المستبشرة بالأرض الجديدة حالت دون استيعابها موعظة حكيمها والأخذ بخبرته وأقواله باعتباره ذي فكرٍ قديمٍ عقيمٍ متخلف، وراضٍ بالرضوخ إلى القليل من الجَزر والخيار ويتهيب خوض تجربة النقلةِ النوعيةِ ومذاق العنب، كما أن تواضُعه غير المُبرر أنساه الاعتداد بأصله المتحدر من سعادين العالم القديم التي تفخر بحمل رتبة الرئيسيات.
حُسم الأمر، وبدأت السعادين هجرتها إلى الأرض الجديدة البعيدة تسبقها عقيدة الاضطهاد التي عانت منها أزمانًا متطاولة وعشق الحياة، ويحدوها أمل المستقبل الزاهر على حساب كل شيء دون اكتراثٍ بما قد يحدث وما يترتب عليه، وسارعت أفواجها صِراعًا بالتوافد تحت جُنح غفلة الأرض الجديدة وما يحيط بها وغطاء حمايةٍ شديد الإحكام من أتباع الأسد والعقاب والديك، وما إن وطأت أقدامهم الأرض الجميلة حتى عاثوا فيها فسادًا وذلك هو دأبهم وكذلك يفعلون، وأهلكوا الحرث وأكلوا المحصول ثم عمدوا إلى المخزون بُغية استبداله بمخزونٍ جديد يتناسب وأسلوب حياتهم وطريقة معيشتهم ودخالة فكرهم، لإيهام كل ساكني الغابات المجاورة والبعيدة بأحقيتهم العريقة وأهليتهم المتجذرة في تلك الأرض، وما انفكت السعادين تتوسع مع تغول أعدادهم وتزايد الداعمين والمساندين وتنوع المساعدات، حتى إذا سيطر على عقولهم وهم الفكرة واستصلبوا هُلاميتها خلصوا بأنهم أصل المكان ودونهم هم الدخلاء، فهيا نطلق على القُطان الأصليين ألقابًا نكرهها نحن وتكرهها كل حيوانات الغابة فهم مجرمون، وهم إرهابيون نعم هذه العبارة جيدة وسنفرط باستخدامها، وهم القتلة وهم الغاصبون أما نحن السعادين فأهل سلامٍ ومحبة وتعايش وتسامح ويحق لنا استباحة مواردهم وموائلهم ولا يحق لهم الرد، وإن فعلوا فيجوز لنا حق الدفاع عن أنفسنا، ولا يجوز لهم نفس الحق، وسوف يدعمنا النسر واتباعه بالتعزيزات والتغطية الإعلامية وتفعيل قوانين الحماية السعدانية.
مرَّت سبعة عقودٍ ونيِّف والسعادين تتكاثر وتتمرَّغ في النعيم الزائف وتتقلب على الأشجار المُعمرة وتقلِب الحقائق بكل جحود وصلف وتبني مجتمعها بيدٍ وتهدمٍ باليد الأخرى المجتمعات المجاورة، ويد ثالثةٍ مخادعة تمتد للسلام والمحبة في محيطها حتى تقوى شوكتها من خلال اللعب على أغصان الوقت والتسلق على فروع المماطلةِ وإطالة أمد حل الأزمات الناجمة عن غزواتها الجماعية للسرقة والنهب والقتل، وتتبلور شيئًا فشيئًا مقولات الراحل أبي قشة على أرض الواقع؛ ويعتمد هذا النوع من سعادين الرئيسيات العليا على الصبر والتجربة ولا تستعجل النتائج؛ إذ إنها ذكية جدًّا وتتأقلم بطبيعتها وتتكيف مع بيئتها لتطوعها معتمدةً على التطور الذي يواكب كل الظروف والأحداث، إلا أن خوفها يحد من ذكائها ويتكسر على عتبات وكر الدبابير، وتسايرها تلك الخشية منذ القدم وعلى الدوام حيث لم تستطع إيجاد حلولٍ حاسمةٍ ونهائية لها.
يخرج بين الحين والآخر سعدانٍ صغير يتمتع بالجرأة والجسارة مع عنفوان الشباب ويتفكر مليًّا في تلك الأوكار الخطيرة التي حذرهم منها الحكماء الأقدمون والتي لا تجد لها آذانًا صاغية بين سعادين العصر الحديث؛ فيعزون الأفكار إلى خرافاتٍ وأساطير من رواياتٍ محرفةٍ تحكيها الجدات والأمهات قبل النوم، ويكبر أحد ذكور الجماعة مع العقيدة التي قدم بها أسلافه إلى الأرض الجديدة وتنمو معه غريزة السيطرة ومطامح التوسع حتى تشاغله جرأته بفكرة اقتحام أوكار الدبابير التي تبدو مسكينةٍ ضعيفةٍ في ظاهرها ومسالمة سهلة الاختراق.
أصبح قردوح زعيمًا يتهافت على سُلطة السعادين ويتودد لأطفالهم ويقدم لهم كل أنواع العنب والفواكه ويعدهم كما وعدهم من سبقهُ، ويحرض على اجتثاث البقية المتبقية من المجتمعات الأصلية؛ حتى إذا حانت ساعة الحسم في حساباته الخاطئة، أجمع أمره وجمع له ما جمع من إسناد السعادين الغازية واقتحموا وكر الدبابير عنوةً وطيف أبي قشة يلوح بالتحذير، وحتى إذا جاوزوا خط اللاعودة وجدت السعادين نفسها بكثرتها وبأسها في مواجهة فجائيةٍ ومباشرة مع عرصات يوم القيامة، والدبابير القاتلة تتخلق من العدم وتباغتها من كل صوبٍ وحدبٍ وتمزقها كل مُمَزقٍ في غاراتٍ شبحيةٍ لتعود وتفنى إلى العدم، فينادي قردوح: يا نُخبة السعادين اثبتوا، لكن لا حياة لمن تنادي، فقد لاذ من خاف على حياته منهم بالفرار، ومن لم يفعل فهو صريع هامد لا يرى من ملامحه إلا بقايا جثة مُلئت بأشواك دبابير النار التي تظهر في نفس المكان وتختفي لتظهر في نفس الوقت ونفس التشكيل ولكن في مكان آخر.
سيدي قردوح: لا يوجد لدى هذه الدبابير شيء لتخسره مثلنا نحن السعادين، وعقيدة الموت لديها أقوى من عقيدة الحياة لدينا، بل هي أحرص على موتها من حياتها، ويبدو أن صغارها تتغذى على ذلك، وهي تنتشر حولنا ولا تخافنا، أو هكذا قال السعدان الميمون، ويقول شادينا: سيدي لقد قُضى علينا، فكلما تعالى صراخ السعادين ليصم الآذان أزَّنا طنين الدبابير أزًا يبعث معه ولدانها من محاريبهم محاربين، سيدي: لقد أفسدت السعادين في يومين هيبةً صنعها أسلافها في سنين.
سيدي: أرجو أن لا تحمل الأمر على محملٍ شخصي، فاذهب أنت وبقية السعادين وقاتلوا أما نحن وبعد ما شهدناه فإنا ها هنا قاعدون، بل ومنقلبون على أعقابنا ومنسحبون.