هل نفهم حديث بيئتنا؟!

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

كانت فراشات "بيستون" تعيش بسلام وطمأنينةٍ في غابات إنجلترا حتى بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، وتتكاثر بشكلٍ طبيعيٍ ومتوازنٍ في محيطها ومع بيئتها، وقد اكتسبت قدرة فائقة على التخفي فوق الأشجار بألوانها الخضراء والبُنِّية الجميلة ولتعضد كسر ضعفها بذلك التمويه المضاد للمفترسات، حتى جاء الإنسان بثورته الصناعية في نفس القرن مما أدى لتغيُّر اللحاء الأخضر الذي كان يكسو الأشجار إلى اللون الأسود والرمادي الداكن جراء التلوث الناجم عن سُخام المصانع ودخانها وأبخرتها؛ الأمر الذي أفشى سر تخفي تلك الفراشات وباتت مكشوفةً بألوانها الزاهية، بل هو عامل الجذب الأكثر بروزًا في فوق جذوع الأشجار وأغصانها؛ هنا بدأت الفراشات بتغيير ألوانها إلى الأسود متماهية مع قتامة مشهد الخلفية لضمان بقائها بالشكل المضلل الجديد، وهكذا وبمرور الوقت تغير لون كل فراشات بيستون إلى الداكن وتخلت عن جمالها، وما هي إلا بضع عشراتٍ من السنين حتى حانت لحظة صحوة حماية البيئة من تلوث المصانع بإغلاقها وتعديل قوانين الانبعاثات لتعود الأشجار إلى لونها الطبيعي المعتاد وبقيت الفراشات في حالةٍ من الإنكشاف للمفترسات؛ إذ إنَّ لونها الداكن لم يعد يشكل غطاء حماية لها ضد العصافير المتربصة؛ ونلاحظ أن هذه الفراشات المسكينة قد ناضلت لمدة قرن من الزمان لضمان بقاء نوعها وهي لا تعلم أن هناك تجارة إنسانية تبعث بالبيئة وتعصف بمحاولات تكيفها، وهذا مثال معاصر لما قد يحدث معنا من تجريف للغطاء النباتي وما قد يترتب عليه من ضرر يعود على البيئة ومخلوقاتٍ تتعايش معها بصمتٍ وهدوء قد لا نراه أو نعيرها اهتمامًا فنستعيض عن الفاقد بردمه بالحجارة والحصى بغية إقامة مشاريع تجارية وقد تكون موسمية وتسوية الأرضية الطبيعية بأخرى صناعية تريح أقدام المشاة من القاصدين لأماكن الترفيه مع أن القوانين تجرم تجريف الغطاء النباتي الهش، ولكن القوانين أيضًا تبيح ذلك في حالة التجارة والاستثمار مع أن الطبيعة تعتبر ملكًا للجميع لا يستأثر بها أحدٌ أكثر من الآخر، ويقال: إذا وجدت طريقان فطريق الطبيعة أجمل.

كانت ولا تزال تجارة الإنسان وصناعته يعملان ضد البيئة مع أنه إبن بيئته، ولكن التجارة الساعية للكسب لا تعير اهتمامًا رئيسًا بالبيئة ومقوماتها وربما يكون الحفاظ عليها غير مدرجٍ ضمن قائمة الأولويات، كما قد يندرج ذلك الاهتمام ضمن ما يعود بالخسارة المادية على التجارة بيد أن الضرر الذي سيعود على البيئة أكبر بكثير ومن الصعوبة البالغة إصلاحه عند اكتشافه، فإعادة التوازن البيئي يتطلب فهما واعتقادا عميقين بخطرهِ وأهميته وجهودًا تكاملية ومتكاتفة إضافة للتكاليف الباهظة ومدد زمنية طويلة ومواصلة مستمرة، ولن نجد من يضمن هذه الاستمرارية.

لا يجب أن تُستسهل مسألة الحفاظ على البيئة بحيث نتعامل معها كما نتعامل مع أي موضوع آخر؛ لأن الانعكاسات السلبية لن تظهر بشكلٍ سريعٍ ومباشر ونتائج التغييرات فيها ستتبين لنا بعد فترةٍ زمنية طويلة، وربما لن يلحظ معظم الناس هذا التغيير في محيطهم على المدى القصير، وكلنا قد سمع ما يقوله كبار السن عندما كانت هناك أشجار كثيفة، وكان ذلك المكان مغطى بالأعشاب والنباتات وأنواع من الحيوانات والحشرات لم تعد موجودة الآن، وكنا في الموسم الفلاني نجني هذا النوع من الثمار طبيعيًا ولا نشتريه من السوق، وكانت تلك العين وذلك النبع يفيضان في هذا الوقت من العام واليوم غيض مائها وجف النبع، وهكذا مما يحدثنا به من استطاع معايشة الفوارق بين ماضٍ ليس ببعيد في عمر التحولات الطبيعية البطيئة وحاضر قريب، وتمكن من ملاحظة التغيير الطارئ على البيئة من حوله وهي ليست تقديراتٍ مجردةٍ أو تخمينات وإنما تغير حقيقي؛ صحيح أنه يفتقد لموضوعية البحث العلمي والتحليلي الباحث عن الأسباب والمسببات ومعظم من شهد ذلك يفتقر إلى منهجية الابحاث التراكمية والاستقصائية، لكنهم حدثوا وبالإجماع عن تغيرات واضحة وصريحة لها شواهدها من الواقع المُعاش ولا تقبل الشك.

كُلما اتسع الخلل جراء استنزاف المصادر الطبيعية وتجريف الغطاء النباتي مع التوسع العمراني والتجاري والصناعي ضاقت الحلول، وإن وجدت فإنها ستكون شديدة الكلفة وبالغة الصعوبة، ولا أشك أن كلَّ إنسان يحب بيئته وطبيعته بشكل أو آخر وهذا مشتركٌ معنوي كلنا نتفق عليه، وحتى يتحقق مِصداق هذا التشارك ويؤدي وظيفته، فلابد أن يكون تعبيرًا قوليًا وطوراً عمليًا من خلال التوعية المستمرة والتثقيف الدائم والإرشاد والتفاعل مع الواقع على نهج المُحب المسؤول من الجميع، وليس فقط العدد القليل من المهتمين بشأن البيئة ممن حملوا على عواتقهم حمايتها تطوعًا؛ ذلك لأن معظم الناس قليلي معرفة بالشؤون المتعلقة بالبيئة ورعايتها وتكاد تكون الثقافة في هذا الأمر شبه معدومة، وبالطبع لا أتحدثُ عن العلم التام والشامل، وإنما الإلمام ولو من باب الإحاطة المعرفية فنحن في نهاية المطاف من بيئتنا وإليها؛ وسوف أتجاوز في معرِض هذا المقال الحديث عن بعض الجهلة المُخربين والمسيئين اللامبالين بقصدٍ أو إهمال، والذين يوكلون لغيرهم شأن علاج وإصلاح ما أفسدته ولوثته أيديهم، وهو مقامٌ تستطيل به الأقوال وقد نتطرق إلى أخلاقياته في حين آخر.

ما شدني مؤخرًا في أحاديث ولقاءات بعض المسؤولين عبر قنوات التواصل الإعلامية هو تركيزهم المتكرر على بعض العبارات والجُمل التي باتت شبيهةً بالمصطلحات العلمية الصلبة، ويخيل إلي أحيانًا أن إقحامها في الحديث قسرًا هو أمر واجب وضروري وإن لم تكن ذات صلةٍ بالموضوع أصلًا، ولكن ربما هي تعكس انطباعًا لدى المتلقي بأن ذلك المتحدث على علمٍ وإحاطةٍ تامةٍ بقضايا الساعة والشؤون التي تشغل الرأي العام وتهمه، كالباحثين عن عمل، والاستثمار والقيمة المضافة، والشباب وفرص العمل والمبادرات وغيرها من العناوين في لقاءٍ قد لا يتجاوز عشر دقائق، ولا بأس في ذلك مع كامل التقدير والتوقير للجهود المبذولة والاحترام، ولكن هذه مواضيع دسمة جدًا، وقد يتطلب واحد منها عدة ساعات من التحليل، وإن سلمنا بأن العامة يفهمونها كونها تمسهم مسًّا مباشرًا من الجانب المادي فما بال الحديث عن البيئة لا يكون ضمن هذه المؤثرات اللفظية والمحسنات البديعية؟! وقلَّما نجد مسؤولًا ما يتطرق إلى البيئة وتوازنها في مستهل حديثه، أو حتى منتهاه، كموضوع من ضمن المواضيع الكثيرة والمهمة التي تطرق لها، وكأن أمر البيئة شأن لا يجب أن يشغل الرأي العام ولا يجب الحديث عنه أو إدراجه في سياقات الكلام؛ وذلك لعدة أسباب.. أهمها: أولًا هذا أمر علمي شديد التخصص مُناط إلى الباحثين والدارسين، وثانيًا غير مهم في الوقت الحالي ولا شأن له بحديثنا الذي يركز على القضايا الأكثر أهمية، وثالثًا السكوت عنه أسلم لقلة المعرفة.

إنَّ التنوع الباذخ للبيئات في بلدنا والذي تطلب ملايين السنين ليظهر بما هو عليه اليوم، قد لا تحظى به قارةٌ تحوي العديد من البلدان، ومن المفارقات الطريفة أن نجد سهولة التنقل بين بيئاتنا البحرية والجبلية والصحراوية مرورًا بالحواضر والمدن والقرى وما بينها لا يتطلب كثيرًا من الوقت والجهد، وقلما نجد مثل هذه البساطة في الكثير من دول العالم، فضلًا ثقافة التسامح السائدة لدينا والتعاون، ولا ينقصنا شيء سوى إنضاج الوعي العام ليصبح الحديث عن أهمية الحفاظ على البيئة والطبيعة وصونهمها  تعبيرًا عمليًّا حقيقيًّا.