ظفار عاصمة اللبان والبخور والعطور

 

 

د. سالم بن عبدالله العامري

ظفار هي أرض اللبان وموطنه، يفوح منها عطره الزكي ورائحته الطيبة، وهي أرض البخور وأجمل العطور، تشتهر بأشجار اللبان التي تنمو خلف جبالها التي يطلق عليها ظل المطر وبمحاذاة المنحدرات المنخفضة وفي بطون الأودية والسهول، ويوجد في ظفار أجود أنواع اللبان كالحوجري والنجدي والشزري أو الشعبي...وغيرها. فهذه الأرض الطيبة التي اعتبرها العهد القديم هبة الله ولبان العالم يخرج من تربتها المباركة أغلى وأهم سلعة يتسابق لشحنها وشرائها كل الحضارات القديمة في ذاك الزمان؛ فهذه الشجرة المباركة قامت عليها حواضر ومدن تعتبر من أقدم وأعظم حضارات العالم، وعندما اختفت هذه القيمة الحضارية والسوقية لهذه الشجرة اختفت كل هذه الحضارات، وأصبحت صحراء قاحلة مترامية الأطراف أوأثراً بعد عين.

كانت ظفار على مدى العصور تسمى بأسماء مختلفة مثل "بلاد بونت" عند الفراعنة و"أوفير" عند الرومان و"أوبار" عند بعض المؤرخين الأجانب والمسلمين. ويقال إنَّ اللبان الصافي لا تنبت أشجاره إلا في ظفار منذ آلاف السنين، ونتيجة لهذه الشهرة كان الإغريق يطلقون عليها البلاد السعيدة (أربيا فيلكيس)، أما الرومان فيطلقون عليها بلاد البخور والعطور والقصور.

لقد كانت لموانئ ظفار -وخاصة سمهرم والبليد- دور تاريخي وأهمية كبيرة في تنشيط تجارة أهم سلع العالم تداولاً آنذاك، ويُعد ميناء سمهرم (روري) من الموانئ المشهورة لتصدير اللبان والبخور إلى العالم القديم والوسيط منذ الألف الخامس قبل الميلاد كما تقول بعض المصادر التاريخية. وفي النصف الثاني من حقبة الألف الأول قبل الميلاد، ازداد الطلب على اللبان نتيجة الاستهلاك المتزايد في كل من بلاد ما بين النهرين، وسوريا، واليونان، وروما؛ حيث ارتفع الطلب إلى قمته في القرون الأولى الميلادية، وكان ذلك هو العصر الذي كان فيه اللبان أهم سلعة على الإطلاق يجري تصديرها من بلاد العرب الى الغرب وكذلك بلاد السند والصين.

ويروي بعض المستشرقين المهتمين بالتاريخ القديم أن سفينة النبي سليمان عليه السلام رست في بحيرة (سمهرم) وأخذت الجرار المملوءة باللبان تتدحرج من أعلى الجبل فتقع في السفينة التي أبحرت باللبان من (أوفير). وكذلك الحال عند الفراعنة فقد كانوا يستوردون من ظفار كميات كبيرة جدا من اللبان كنوع من التقرب للآلهة، كما أنهم يستخدمون اللبان في صناعة أجود أنواع العطور وبعض الأدوية أو مواد التحنيط. وفي السياق نفسه، كانت حضارات بلاد الرافدين (الآشورية والكلدانية) هي الأخرى تستورد من ظفار اللبان من أجل نفس الغاية وهي التقرب من الإله؛ فنجد مثلا في النقوش الآشورية رسومات لحرق اللبان لإله الشمس، وهو الحال ذاته مع الحضارة الكلدانية التي تستورد من ظفار اللبان سنويا وبكميات ضخمة لحرقها في بابل أمام مذابح الإله بعل.

ورغم ثمنه الباهظ، نرى أنَّ الإغريق والرومان كانوا يصرفون ببذخ لشراء وحرق اللبان المستورد من ظفار في جنائز موتاهم تكريماً وتقديساً لها، حيث أشار المؤرخ الروماني المعروف (بليني) المولود سنة 23 للميلاد بأن الإمبراطور الروماني (نيرون) قد أحرق كميات كبيرة من اللبان في جنازة خليلته (بوبيه).

وقد كتب البعض من المؤرخين في فترات مختلفة الكثير من الأساطير عن ظفار واللبان وآلية استخراجها وطرق الوصول إليها. لقد كان الوصول إلى أرض اللبان حلمًا يسعى إليه كل العظماء والنبلاء، إلا أن الحصول على هذه الأشياء يتطلب مصاعب كبيرة؛ فاللبان في حراسة الآلهة كما تزعم الأساطير، وهو في نفس الوقت في حماية الملك الذي يشرف على تصديره.

إنَّ ظفارعبر موانئها التاريخية كانت مزدهرة جدا وسوقا مشهورا لأهم السلع التجارية ذات القيمة العالية التي تعادل الذهب والنفط في العصر الحديث. ومن هنا نتساءل: لماذا لا نستثمر كل هذا التاريخ العريق لهذا المورد الثمين والمنجم الكبير الممتد على مساحات شاسعة في أودية وسيوح ظفار الواسعة لتكون ظفار سوقا عالميا من جديد لتصدير اللبان والبخور والعطور، وجعلها عاصمة للبخور والعطور على غرار مدينة غراس الفرنسية التي تشكل صناعة العطور فيها ما يقارب الـ10% من إجمالي صناعة العطور على مستوى العالم، الشيء الذي أدى إلى تزيد أعداد السياح إليها؛ وبالتالي ازدهار القطاع السياحي فيها؟.

ونظراً لأن اللبان يدخل في صناعات متعددة، إضافة لصناعة العطور مثل الصناعات التجميلية والطبية ومكونات الأدوية والزيوت والعسل وغيرها، فهو بمثابة مورد اقتصادي وقيمة مضافة سيسهم بلا شك في الناتج المحلي إذا ما تم وضع إستراتيجية وطنية تهدف لتأهيل زراعة أشجار اللبان في أماكن انتشارها وحمايتها والحفاظ عليها، وفتح أسواق على مستوى عالمي يليق بتاريخ أرض اللبان والبخور والعطور ويعيد لها مجدها وازدهارها وحضارتها.

تعليق عبر الفيس بوك