"وما تخفي صدورهم أكبر"

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

لكلِّ شيءٍ فيما نعلمُ وما لا نعلم حدودٌ، ولابد أن تكون كذلك حتى تتميز الحقوق ولا تختلط القيَم ببعضها، ولتسهُل المراقبة والمحاسبة، ويُتعارف على هذه المعايير في معظم الأحيان بديهيًّا قبل أن تُسن في الدساتير الإلهية والإنسانية لتكون حجةً على الجميع. ومن يُهمل شيئًا منها دون أن يشعر فربما يعتدي على حقوق غيره أو حرياتهم، ولكن من يتعمد البغي بلا مبالاة فإن مقياس التحليل والإستنتاج الحسي السليم لديه ضعيف أو مختل، فيقع في وهم قبول فعله تحت تأثير رغباتٍ ونزواتٍ نفسيةٍ زينت له ذلك العمل، ومع عدم قناعته التامة به إلا أن شعور الاستحسان النفسي المُصاحب بغى على التنبيهات القوية للريبة (وزين لهم الشيطان أعمالهم).

وتختلفُ المراحل العمرية في افتعال وقبول التصرفات التي يشوب بعضها شيء من التهور أو الطيش، إلا أن معظمها يتناقص بمرور الوقت حتى يصل الإنسان في مرحلةٍ من مراحل عمره إلى المستوى الذي يَنشد فيه الكمال في هيئته، وكل أعماله وأفعاله أو معظمها، وذلك مذهبٌ فِطري قويم يدفع بصاحبة إلى السمو بنفسه فوق مهاوي المنغصات ومثاوي المشكلات، مراعيًا لغيرةِ بتجنيبهم كل مامن شأنه ضررهم أو إلحاق الأذى بهم وحتى في أبسط الأمور "أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون".

يتَّفق الجميع على ضرورة بسط مساحة الحريات وعدم تقييدها أو الانتقاص والتقليل من شأنها، كما يتفق العالم المحب للإنسانية كله على أهمية حريات القول والتعبير حتى تُفتح الآفاق للتحليق بالعطاء الفكري والأدبي والفني عاليًا في سماء الإبداع، وعليه فلن يختلف الجميع كذلك على موضوع تقنينها كي لا يُساء فهم الحريات مع تعدد الرغبات والأهواء وحتى لا يُترك الأمر دون حدود إلى ما وراء تلك الحريات من قول وتعبير لتعتدي على العقائد والشرائع والأخلاق بالازدراء والسخرية؛ وبما أن هذه الممارسات تحكمها نظُمٌ وأعراف تختلف من مجتمع لآخر وماقد تستحسنه الحريات هناك يُستقبح في مكانٍ آخر، فإن دور العقلاء الذين ينشدون الكمال يحين في هذه المرحلة ويتدخل بالقياس والتحليل والاستنتاج ثم الموافقة أو الرفض لكبح جماح بعض الحريات الطائشة أو المتهورة التي تعتدي بقصدٍ أو دون قصد على مشاعر الغير، لذلك فإنَّ معظم الحريات التي قد يتناقض وقعها أو يُساء فهمها بين مجموعةٍ وأخرى تُقام في نطاقٍ ضيقٍ ومحدودٍ دون تسليط الضوء عليها، فمثلًا لو أن مواطنًا سويديًا من أي الأعراق كان زينت له أهوائه سوء عمله بحرق القرآن الكريم في بيته وفي معزلٍ عن الناس والأضواء، فإن ذلك شأنه، ولن يضر أحدٌ شيئا سوى نفسه، ولكن لن تحقق له ذاته الساعية للسعادة مبتغاها في إعلام العالم بمدى حقده على المسلمين وكرهه لهم ولدينهم ولن يعكس من اعتدقنا أنهم عقلاء في بلاده شعورهم المشابه المتجسد في شخص ذلك الحرَّاق "وماتخفي صدورهم أكبر".

كُنا نسمع ومازلنا عن الحضارة الغربية المُتسامحة المحبة والمشرعة للقوانين الإنسانية والحيوانية التي تحفظ حقوق الجميع، ونرى ذلك يتجلى في برامجهم الثقافية وفنونهم الأدبية والسينمائية والتي لا تخلو أحيانًا من نزعاتٍ تدل على عكس ذلك، ولكن نجد سريعًا من يقوم بالتبرير والنفي بأنها حالاتٍ فرديةٍ أو شخصيةٍ وإستثنائيةٍ ونقع بعدها في وهدة الحيرةِ بين تصديق وتكذيب، مع أن جُل الشواهد التاريخية وبعض الأحداث المعاصرة مشرقةٌ على أنانيتهم وتسلطهم ونظرةِ الذات المتعالية المستكبرة والمستصغرةِ لغيرهم، وبعد ماشهدناه مؤخرًا من إصرار السويد وللمرة الثانية في أقل من عامٍ على السماح لبعض الحقدةِ بحرق القرآن الكريم، فإن غشاء الريبة قد كُشف، وتأكدت شكوكنا عما كنا نسمع ونشاهد؛ وما هو إلا فقاعة واهية ولوحةٍ إعلامية خادعة نُقلت لنا ونحن في حالة من الإعجاب بالصورة الخارجية حين لم يقع في يقيننا قبلها عمق الكراهية المكنونة وكم الاحقاد المدفونة في صدورهم، ولكن "جزى الله الشدائد خيرًا" فبها يمتاز الخبيث من الطيب وربما حان الوقت لتفعيل منبه الحذر في التعامل القادم، وركن إفتراض حسن الظن جانبًا وتقديم أسوأ الاحتمالات قبل أحسنها.

عندما تغُض الأنظمة والدساتير الغربية طرفها عن القوانين التي تجرم ازدراء الأديان والمعتقدات، وفي المقابل تبيح الإنحلال الأخلاقي والتفسخ المجتمعي، فإن ذلك يشير بما لا يدع مجالًا للشك بأن الخلل قد وصل إلى العقول، فترفض القواعد المنطقية مع كثرتها وتركن للضَّال منها مع قلتها، وهو نتاج فتراتٍ زمنيةٍ طويلةٍ تعاقبت عليها أجيالٍ وتغيرت معها ثقافاتٍ نبذت القوانين الربانية وأخلدت إلى قوانين الحريات المطلقة حتى بات المُنكر معروفًا يأمرون به ولا يتناهون عنه، بل وتحميه قوانينهم وسُلطاتهم العليا في خلطٍ فجٍ بين رقي حرية التعبير الذي يتسنم بالفكر الخلاق إلى ذرى الإبداع وحضيض إشاعة الفتن والكراهية؛ من خلال إبرازها على أيدي عناصر لا تخلو من الأمراض النفسية، ويبدو أن كل ذلك متعمدًا لغرض العودة على المسلمين لاحقًا بعدما إستثاروا مشاعرهم ودفعوا بهم دفعًا إلى درجة الغليان فيجدون لهم مسوغًا للرد، أو هي ذراع اليمين المتطرف تمتد في حينها المعلوم لتحقيق مكاسب سياسية ثم تُغل مؤقتا مع تقديم اليسار إعتذارًا كالحًا وأسفًا باهتًا.

قد يعتقد السويدي الذي سوَّد وجهه ويديه بحرق القرآن مع غطاءٍ أمني مكثف لا يخلو من السواد ومباركةٍ حكومية بنفس اللون بأنه يحقق شيئًا في ذاته من خلال تعبيره عن رأيه بهذه الفعلة، وهو بلا شك قد اتخذ هذا القرار بعد تفكيرٍ طويلٍ وتخطيط مسبق وتنسيق منظم، فهل حقق سعادته بعد كل تلك الجهود على حساب معتقدات ومشاعر غيره؟!

الجواب بالطبع لا، إذ يعيش من يقوم بمثل هذه الأفعال المعادية المستفِزة حالةٍ من الكبت لم تعد تحتمل نفسه كتمها ولن يكون التنفيس عنها إلا بواسطة إظهار التشفي على الشكل الذي ظهر به ولن تكون ذاته الموهومة سعيدةً دون عرض المشهد كما نَظم له مُخرجوه، وسيجر على نفسه فوق كبتها حالة لا تنتهي من الهم والأسى المتلاحقين والخوف والرعب المستمرين، وهذه مخلفات الشياطين.

تقع السعادة في حياة الإنسان على طريقٍ مجهول النهاية لكن العمل وقوة الأمل يدفعان به طول عمره في سبيل نيلها وتبقى النسبة بين تحقيقها المطلق ثابته المسافة لا تتغير كالسراب إلا من سلك طريق الحق والرحمٰن، وعدى ذلك فإن تحقيق السعادة حلم نسبي ولا نسبة مع المجهول المطلق.