◄ العالم يشهد مخاض نظام جديد قاعدته "الأقطاب المتعددة".. وخطورة هذا التمرد كانت في احتمالية تحوله لانقلاب على القيادة الروسية
◄ بوتين يعلم يقينا أن أية مُتغيرات في قواعد اللعبة ستفضي لعواقب وخيمة ليس فقط على مستقبل حكمه وإنما على روسيا ككل
◄ بإعلان انتهاء التمرد.. التقط العالم أنفاسه رغم علامات الاستفهام الكبيرة التي ستظل بلا إجابات حتى إشعار آخر!
حاتم الطائي
لم يكُن يوم السبت الرابع والعشرين من يونيو، يومًا عاديًّا في دولة روسيا الاتحادية؛ ولم يكُن العالم أجمع يتوقَّع ما حدث، حتى إنَّ أشد المُتشائمين لم يدر بخلده يومًا أنَّ قائد مجموعة فاجنر الأمنية الخاصة يفجيني بريجوجين قد يُفكر أو يُخطط لخيانة رئيسه وصديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن ما حدث فاجأ الجميع، ودفع العالم إلى الوقوف مُشرئبين، ترقبًا لما ستسفر عنه التحركات التي نفذها بريجوجين وأعلن بعدها عن سيطرته على مدينة روستوف الجنوبية والتي تبعد بضعة كيلومترات عن العاصمة موسكو، لا سيما وأنَّه هدد بالزحف نحو العاصمة حيث مقر الكرملين، وحيث يتحصن بوتين في ظل حرب مُستعرة تدور رحاها في الجارة أوكرانيا، في محاولة منه لإخضاعها رغم أنف الغرب ومن ورائه حلف "الناتو" والولايات المتحدة، ومن حذا حذوهم.
وقبل الخوض في أي تفاصيل، يجب أن نوضِّح أن قوَّات فاجنر الخاصة، ميليشيا عسكرية تضم مجموعة من المرُتزقة، أسهمتْ بدورٍ فاعلٍ في العملية العسكرية التي تنفذها روسيا في الأراضي الأوكرانية، واستطاعت إحكام السيطرة على عدة مدن أوكرانية، أهمها باخموت، تلك المدينة الاستراتيجية التي مثلت معركة السيطرة عليها واحدة من أشد المعارك احتدامًا منذ أن بدأت الحرب في فبراير 2022.
الساعات القليلة التي شهدتْ التمرُّد المسلح لهذه المجموعة بقيادة زعيمها يفجيني بريجوجين، كانت فاصلة وحاسمة لمختلف الأطراف، سواء الرئيس بوتين نفسه أو مساعديه من وزير الدفاع ونائبه وكبارالقادة العسكريين، أو بالنسبة لقائد فاجنر، وكذلك الغرب وأمريكا، والعالم أجمع من ورائهم. ولعل الخطر الأكبر الذي تمثل في هذا التمرُّد المسلح أنَّه كان من المحتمل أن يتحوّل إلى انقلاب عسكري على القيادة الروسية الشرعية المتمثلة في الرئيس بوتين، وعندئذٍ ربما تتطوَّر الأمور سريعًا وتفقد الدولة الروسية قدرتها على السيطرة وفرض همينتها وسيادتها على كامل الأراضي الروسية، والأخطر من ذلك الترسانة النووية التي تعدُّ ثاني أكبر قوة نووية في العالم بعد الولايات المتحدة، فضلًا عن الأسلحة التكتيكية الأخرى، والتي تشمل -مثالًا لا حصرًا- الصواريخ العابرة للقارات والباليستية والقاذفات والقنابل العنقودية، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، التي ما إن وقعت في يدِ أيِّ متهورٍ فقد يضع ذلك العالم على شفا حفرة من النار، لا مُنقذ منها سوى القدر الذي نأمل أن يكون بردًا وسلامًا على الجميع.
لكن من لُطف الأقدار أنَّ هذا التمرد المؤقت أُخمِدَ سريعًا، خاصة بعد تدخل رئيس روسيا البيضاء، وإعلانه موافقة زعيم فاجنر على وقف الزحف نحو موسكو والتراجع عن تمرده المسلح، ومن ثم الذهاب إلى مينسك، فيما بدا أنها صفقة استسلام مقابل الحفاظ على حياته. ومنذ ذلك الحين وإعلان انتهاء التمرد المسلح، التقط العالم أنفاسه وتنفس الصُّعداء، واطمأن الجميع بأنَّ الدولة الروسية ما زالت تقف على أقدام صلبة، رغم ما تركه هذا الحادث من ندوب وعلامات استفهام ستظل بلا إجابات حتى إشعار آخر!
وعلى الرَّغم من أن الكثيرين ذهبوا إلى تفسير ما جرى على أنَّه جزء من الخداع الإستراتيجي نفَّذه الرئيس بوتين بحنكة رجل المُخابرات السابق، وأن هذه "المسرحية" -إنْ صحَّ التعبير- لم تكن لتحدث أصلًا لولا أنَّ المُخرِج هو الرئيس بوتين ذاته! وفي هذا تنافس المتنافسون في التحليل والتبرير والتوضيح، بعضهم اعتمد على مصادر مجهولة وقصاصات صحف غير معروفة، والبعض اعتمد على ما تبثه وسائل التواصل الاجتماعي من ترَّهات وأكاذيب وزيف إعلامي لا مثيل له. فالحقيقة الأنصع بياضًا في هذه الأزمة أن ثمة تمردًا مُسلَّحًا قد وقع، وأن رئيسًا مُتمكِنًا استطاع السيطرة على التمرد في غضون سويعات، ولا دليلَ على صحة ما أثير من مزاعم تتعلق بأنَّ الأمر مُدبرٌ بليلٍ أو أن العمل من مكائد بوتين لتحقيق مكاسب هنا أو هناك.
الوقائع تُؤكد أنه حتى الآن، ما زالت التحقيقات جارية فيما يتعلق بما جرى يوم السبت الرابع والعشرين من يونيو، وأن الحرب في أوكرانيا بعد هذا التاريخ ليست كما كانت قبله، وأن التطورات التي سنشهدها خلال الفترة المقبلة، ستُظهر الكثير من الخبايا التي أُخفيَت عن أعين الجميع.
ما يُمكن قوله في هذا السياق، أن الدولة الروسية تمرُّ بتحديات لا تُخطئها عين، وتُواصل بجيشها ومواردها الاقتصادية ودبلوماسيتها، محاولات عبور الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، حتى يتحقق الهدف الذي يرجوه الرئيس بوتين، وهو إخضاع أوكرانيا، وضمان عدم تبعيتها لحلف "الناتو"؛ إدراكًا منه أن تواجد هذا الحلف الغربي الأمريكي على حدوده يُمثل تهديدًا وجوديًّا للدولة الروسية، وبصفة خاصة الدولة الروسية البوتينية.
الرئيس بوتين يعلم يقينًا أن أية مُتغيرات في قواعد اللعبة ربما ستجلب له الكثير من المتاعب، كما أن أية تحركات غير متوقعة، أو لنقُل بوضوح: أية مغامرات غير محسوبة، ستفضي إلى عواقب وخيمة، ليس فقط على مستقبل حُكم بوتين، ولكن على الدولة الروسية، خاصة وأنه منذ أن اندلعت الحرب، والعالم يشهد مخاض نظام عالمي جديد، يرتكز في جوهره على قاعدة "الأقطاب المتعددة"، ويعمل على نحوٍ متسارع من أجل التخلص من العالم القديم المستمر منذ الحرب العالمية الثانية، والقائم على "الأحادية القطبية".
قد لا نميل إلى فكرة تدبير بوتين لتمرُّد مسلح مزعوم، ذلك أن موقف الجنود على الجبهة وفي مختلف المواقع، ربما يكون تحت تهديدات خطيرة، وربما يتسبب في انهيار كامل الجيش الروسي في لحظة معرفة انشقاق زعيم فاجنر -المعروف أيضًا باسم "طباخ الرئيس"- عندئذٍ كل الاحتمالات يمكن توقعها، حتى إن الرئيس بوتين نفسه وفي خطاب له عقب الأحداث، وجَّه الشكر لجموع الجيش الروسي، وامتدح دورهم في "تفادي حرب أهلية" كانت تتهدِّد روسيا، أي أنَّ بوتين يُدرك التداعيات الخطيرة لأي مغامرة غير محسوبة، حتى ولو زعم البعض أن الهدف منها كان إزاحة وزير الدفاع الروسي وكبار الجنرالات الذين ربما يُشكلون في داخلهم ما يُصطلح على أنَّه "دولة عميقة".
ويبقى القول.. إنَّ ما حدث في روسيا قبل أيام، سيُمثل نقطة فارقة في مسيرة بوتين، ومنعطفًا يجب دراسة تداعياته جيدًا، من أجل التفكير في مآلات هذه الحرب، وكل حرب؛ فالحروب لا تحقق الرخاء، ولا يجني منها أحدٌ نماءً أو ازدهارًا؛ بل تعود بالويل والخسارة على جميع الأطراف؛ لذا فإنَّ السلام هو الحل لا سواه!