القرية العالقة (1)

 

 

حمد الناصري

 

شعرَ بعطش شديد، كادتْ شرايينه أنْ تتمزّق. نظرهُ يَمتدّ إلى طريقٍ بحري طال انتظارهُ، سحب نفساً عميقاً، وكان هَبُوب الكوس" يدخل نقياً إلى رئته. بُقع داكنة شدّتْه، ثبّت نظره ناحيتها، مَدّهُ طويلاً حدّ الشوف. سيارة صغيرة، انفتق صوت من عجلاتها، سحابة من الدّخان تَعْتلي السيارة الصغيرة ويتصاعد بسرعة مُرعبة. رائحة تفتّق إطار السيّارة المُحاذي للسائق، أثار الرّعب في نفسه. أُناس كُثر يتحلّقون حول سائقها الذي خرج منها بأعجوبة. قالت عمّته وقد قطعتْ عليه حبْل تفكيره:

ـ سائقو هذه الأيام يُرعبوننا بخشونتهم، ورُعونتهم.

سكتت. قطّبتْ جبينها. وقالتْ بخوفٍ بالغ:

ـ أخشى ألا يكونوا قد لَبَدُوا كميناً لـ عبدالله.!؟

تنهّدتْ وقالتْ:

ـ أتمنّى ألاّ يجلس عبدالله، فوق الحجارة التي يتدفّق من فوقها الماء.

***

كان قُرص الشمس النافذ إلى أعماق الأرض، قد بدأ في التّلاشي. في هذه اللحظة، قالتْ أمّه وقد أخذتْ مكانها بجانب عمّته:

ـ ليتَ قاسماً لم يُغادرنا، ليكون خير مُعين لك.

سكتت ثم أردفتْ:

ـ كان أبوك في أعلى درجات التوجّس والخوف على مُستقبلك، كان يُريد أنْ يَضْمن لك حياةً تأنس بها. لكن قدرك، أنْ تكون بين أُختينْ.

نظر في عينيها وقد أحمرّتا، استأنفتْ حديثها:

ـ تلك الحجارة الصَمّاء، اندلقَ قاسم مُتدحرجاً من فوقها، انزلقَ وهو لم يزل في السنة الرابعة. هي نفس الصَخرة التي جلسَ عليها أبوك وغادرنا من لحظتها، ذلك اليوم، عُرفَ بيوم الجرّافات.

في ذلك اليوم نفسه، طلبَ المسؤول يومذاك من عبدالله مُغادرة المكان، والنزول من فوق الصخرة:

ـ المشروع كبير، ولا يُمكن توقيفهُ لأسباب، واهية، باهتة.

ألقى المسؤول هذه الكلمات واستأنف حديثه:

ـ جميعهم مُوافقون إلا أنت وبعض الناس الذين معكَ ترفضون تسليم مُمتلكاتكم، كالبيوت والزرائب والبساتين، نحن لم نفعل ذلك بإرادتنا، كُلّ ذلك تمّ بأوامر عُلْيا. فهل يُمكن أنْ نُوقف المشروع، أتظنّ أنّنا سنتوقف!!

اشتدّ توتر عبدالله، لكأنّما تعرّض لِصَعقةٍ. قال المسؤول مرة أخرى:

ـ هذا مشروع سياحي كبير. ستكون هُنا، فنادق، وملاعبَ للجولف، ودورٌ للسينما. ونوادٍ، كُلّ ذلك، من أجل حاضر جميل لكم.

شدّ عَبدالله نظره في عين المسؤول، واشتدت حالته إلى أسوأ من ذي قَبْل، وقال بعصبية شديدة:

ـ أنا أرفضُ تحويلنا إلى قُرى بَعيدة تُفرّقنا، نُريد قرية واحدة. تحمل اسم قريتنا القديمة، لا نُريد أكثر من ذلك.

قال المسؤول بلهجةٍ فيها استخفاف بمطالب عبدالله فقال مُحَوّراً فلسفة العبارة:

ـ لو كان طلبك في المُستطاع، لنفذناه. إنّي ناصح لك، أنْ تُساير التغيير، أنت ومن هم معك.

اشتدّتْ حالة عبدالله العصبية، وهو يُحاول كَبْتها، فقال المسؤول مرة أخرى:

ـ السياحة مَشروع حيوي كبير، سيعود عليكم بالنّفع!

قال عبدالله بنبرة حادّة:

ـ لن نتحرّك من هُنا، ما لمْ تُنفّذ مَطالبنا؟

صوت من وراء عبدالله يظهر بقوة، مُواطنون يرفضون تحويلهم إلى مكان آخر غير قريتهم، وتهجيرهم إلى قُرى بعيدة.

قال شخص كبير في السِن، نحيف الجسم، له عينان حادّتان:

ـ نعرف مُواطنين انتقلوا بالقُرب من الميناء، أُصيبوا بالسرطان، بسبب المُلوّثات والأدخنة!

قال رجل آخر قصير القامة، مُمتلئ الجسد:

ـ نعم، مات أُناس كثيرة، وأنتُم تكتّمتُم على الخبر. لم تخبروا المرضى بمرضهم. أليستْ هذه من ضِمن ما عاهدتّموهم عليه. قُل لي بربّك من المسؤول عن خيانة هذه الأمانة!؟

عقّب الرجل النحيف ذو العينين الحادّتين:

ـ ويش تقول في هذي؟! " مدّ عينيه في عين المسؤول"

قال رجل من أقصى الذين تجمّعوا حول المسؤول:

- لن نسكت عن حقّنا. حاضرنا لن يكون كالأمس، ساكتاً وقانعاً.

هزّ رأسه وأكمل:

ـ مُواطِن اليوم صار يَعِي مُستقبله ويُفرض حقوقه!

وبلهجة فيها اسْتخفاف بمطالب الجماعة قال المسؤول:

ـ لو طلبتم المُستطاع تكون الحياة أكثر هدوءً وسيكون حالكم مُختلفاً؛ وقد أشرتُ إلى عبدالله بنفس العبارة والحِكْمة.

ظلّ عبدالله ساكتًا. لا يَقْدرُ على شيء. كما العامل غير النشيط، يكون كَلاً على ربّ العَمل!

قالت عمة عبدالله:

ـ لم يُفضِ حوار أبيك والمسؤول عن المشروع إلى شيء.

فقال عبدالله:

ـ لن أتحرّك من مكاني، ولو اقتلعتموني، كما اقتلعتَم البيوت والأشجار!!

قال أحمد بصوتٍ واهٍ:

ـ ولكن لماذا؟ هل كان أبي، يُريد الموت؟

ـ لا. لا بالطبع لا!

وبهدوء قالتْ:

ـ كان أبوكَ غيوراً، يقول الحقّ ولا يخشى لومة لائم، هكذا عهدناهُ!

سكتت، انتحبتْ، واستطردتْ:

ـ مسكين عبدالله، لم يتمكّن من قول شيء. لَثغ لسانه وتثاقل. ارتجفتْ شَفتاهُ، واهتزّت أطرافُها؛

بكتْ مرة أخرى وغمغمتْ، وضعتْ طرف لحافها على أُنفها ومسحتْ دُموعها.

كان يصْعُب على أحمد استيعاب كل مُجريات تلك الاحداث، لحداثة سِنّه، تنشّق عِطر العُشب الذي قطّعته الجرّافة. وتماثلتْ صُورة أبيه في وعْيه. وتمتم:

ـ العقولُ الذكيّة تقود، وأبي كان ذا عزم وقوة!

كانت عمّته إلى جانب أُمه، وقد لبستْ ثوباً تقليدياً واسعاً. ورطوبة البحر، تزيد الجسد تعرّقاً، فيبدو وكأنّ ثوبها قد ارتصّ على جسدها.

قالتْ وهي تنفض ثوبها المُبلّل بالعَرق:

ـ رطوبة البحر خانقة بسبب هبوب الكوس!

قالتْ أمه وقد أصابها ما أصاب عمته:

ـ هذان الشهران أصعب شهور القيظ، فيهما الرطوبة تكون عالية، لزجة لا تُطاق! ولكن الآباء يقولون، في أيام القيظ، الجسد يتنفّس ويتفتّح ويَنشط، عكس الشتاء. تُصيب برودته كثير من الناس بالخمول.

التفتَ إلى أمه وقال:

ـ لوْ كان أبي حاضراً، لطبعتُ قُبلةً على جبينه؟!

تابعتْ خديجة حديثها في تَباهٍ:

ـ كان عبدالله.... ثم "دَمْدمتْ برأسها واغْرورقت عيناها."

ولم تَبْزم بعدها ببنت شِفة، وكأنّ لسانها انعقد واحتبس.

 

أحسّ أحمد بشعور الحزن، وبدا كطائر مُنكسر الجناح. طافتْ على مُخيلته، كثير من المواقف رغم حداثة سِنّه، لكنه كان قوي الذاكرة. تماثلتْ صُورة الرجل العجوز المُسجّى وقد اصفرّ وجهه وتجمّد جسده.

بقيتْ أُمه إلى جانبه تبكي وتنتحب وكذا عمته وبعض نسوة القرية، يُشاطرنها، بكتْ كثيرًا، وأبكتْ اللّواتي تحلّقنَ حولها. وضعتْ يدها فوق جفنيه وأرْخَتْهما حتى أغمضتْ عينيه، لكأنّ دِفْء العِشْرة ورِقّة المودّة، تُؤكّدان ذلك الفضْل الذي لا يُنسى بينهما.

حملتْ شيئًا ثقيلًا وألْقتهُ على جسده المُسجّى، ثمّ أتبعتهُ بغطاءٍ سميكٍ من رأسه إلى قدميه، غطّته بالكامل.

انسحبتْ خديجة بِخُطىً ثقيلة إلى داخل الدّار، تركتْ للرجال شأنهم.

رجل مُشتعل الراس أخذ ينتحب مُتأثرًا بفجيعة العجوز المُسجّى. يبكي بُكاءً مُرًا ودُموعه تُبلّلّ مَصرّه الذي تركه على كتفيه، كمنديل يتمخّط في طرفيه.

استلهم أحمد من هذه الطريقة أنّ غفوةَ أبيه أبدية لأوّل مرة يعرف طريقة وضْعها.!

***

عند صحوة الفجر، كانت بسمات الصباح تشقّ عن رَوعةٍ أخّاذة.. صَوّب أحمد عينيه ناحية طريقٍ واسع، تذرعهُ السيّارات جيئةً وذهابًا، هدير أصوات عجلاتها واحتكاك هيكل أجسادها لكأنّها تصطدم في بعضها. لا يقتصرُ أزيز وهدير الأصوات على سياراتٍ صغيرة، فالمركبات الكبيرة، هي الأخرى لا تَهجع، تستفزّ بضجيجها القرية؛

استحضر أحمد المشروع وأمه تقترب منه:

- مشروع جميل - يا أمي - ولكن الناس - كما علمت - لم يكونوا مَرنين مع مُتطلبات المشروع ولم يكونوا - أيضًا - مُتوافقين مع السّاعِين إلى منفعتهم وحاجاتهم.

خافتْ خديجة أنْ يكون أحدًا قد سبقها وأدخل فكرة المشروع إلى إبنها التي تنتظر أنْ يكون رافضًا لفكرة المشروع مثل أبيه...؛ وتحدثت إلى أحمد:

- المشروع قال عنه عبدالله ، بأنهُ غير مُجْدٍ للقرى الساحلية ، مشروع يستنزف عصب ميزانية السنين ، لا منافع ولا شيء يُرتجى منها، إلا أنْ تُعطّل مهنة الصَيد ، وتُشتت جمع الرجال، مَشروع لن تُؤتي ثمارهُ بمنفعة مُباشرة للقرية وأهلها ، غير أنّها فِكْرة تقوم بنقل القرية من قرية حاضرة البحر إلى قرية بعيدة، كثيرة المَشقة والعَناء للذين يكسبون رزقهم من حرفة الصيد ، ثمّ لا تلبث وبَعد حين من الزمن يترك البحارة مهنتهم وتفقد القرية مكانتها.!

كانت ركبتها عند ركبتيه. بُني، قريتنا عميقة الجذور، فإنْ لم يقم أحد من الناس، ويشدّ من عضد الرجال، فسوف يأتي يومًا ولا نجد من يَعتز بالموروث، وتموت القِيَم رخيصة كموتة عبدالله ثم تتقادم بفعل السِنين؟

قال أحمد بلطف :

- بعض الأسباب قد تجعل النهاية صَعْبة. وقد يَلحق بنا الضرر بمقدار صُعوبة النهاية؛ ورأيي، أنّ ضرر المشروع ليس كبيرًا ولا يُشكّل تهديدًا ولا خطرًا على حياة الناس.

والحياة لا تتوقف، فقط تحتاج إلى مُرونة.  كيْ لا تتحوّل المَنفعة إلى ضرر.

سكت.. وكأنه يُتيح لأمّه التعليق على كلامه، قالت خديجة بهدوء:

- نعم، كلامك عين الصّواب، لكنَّ أباك كان شديد الاعتزاز بقريته، رفض المشروع، بحجة أنّ المشروع فِعْل مُتعمّد لهَدْم القرية وهَدْم القِيَم والمَوْروث !! وكان يقول ، منْ أينَ تَسْتقي الأجيال اعتزازها، إذا تغاضيْنا عن قِيَم القرية؛

بقي أحمد بُرهة صامتًا وبَعد حمحمة قال بلطف وهدوء:

- ليتَ أبي سمعَ كلامك، وتوقّف عن شدّته؛

أردفتْ أم أحمد وكأنها تحمل ابْنها على سيرة أبيه، ليرفض مشروع هدم القرية، وضعتْ يدها على طرف لحافها ومسحت دمعتها؛ قلتُ ل- عبدالله:

- دَعْنا نحمل ما يُمْكننا حَمْله من متاعٍ وأثاث، حيث أهلُنا وعشيرتنا. موطن جُذورنا الأوّل، بَعيدًا عن ذرائع المشروع.

- ليته سمع كلامك! " كرّرها أحمد وفي داخله غصّة. وغمغم، لو كانت قرية الجبل قريبة، لكان الوضع أحْسن.

لا يزال الرجل الأشيب في مُخيلته، بلحيته الطويلة ووجهه العريض، اتّسعتْ حدقتا عينيه، دَهْشةٍ تملّكته.. لمْ يغبْ عن باله ذلك الرجل المَتين ، قصير القامة، عريض المنكبين، يتذكّرهُ وهو يُمسك بيده عصًا ويهزّها في وجه رجل هزيل. يتذكّر ذلك الموقف. مُذ أنْ كان صغيرًا، وهو يتساءل في نفسه، تُرى من يكون ذلك الرجل الاشيب عريض المنكبين؟ وما هي أحداث موقف نوبته التي لم أراهُ بعدها. ؟! وهمّ بسؤالها ولكنّه، أسرّها في نفسه ولم يُبْدها لأمّه؛

زوّت عيناها جهة اليمين وقالتْ بحزن :

- إيه.. يا عمي؟

توقّفت قليلا، ومُخيّلتها تستدعي صُورة عمّها ثم واصلتْ شحن ولدها بانفعال لتحقيق هدفها، بأنّ ذلك المشروع ظُلم للقرية.

- ليتكَ تعود يا عمّي!

- هل ذلك الرجل السّمين ذو الوجه العريض والذي لا يترك العصا ، هو عمّك.؟

- نعم..  ليته يعود ، ليعلم بأنّ أحمد أصْبح رجلًا يُعْتد به.؟

- هل مات عمّك أم ما زال حيًا؟

- فاجأتْهُ نوبة هَوْسٍ شديدة، لم نعرف عنه شيئًا؛

- إذنْ ، هو لم يَمت، يقولون ، الغائب حُجته معه ، حتى يَعود إلى أهله سالمًا..!  سكت، وهو ينظر في وجهها.. أليس كذلك؟

- نعم.. قالت بحزن.

يُتبع...

تعليق عبر الفيس بوك