لماذا نكتب؟ ولماذا تسمعني؟

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

 

كل واحدة منِّا كانت تملك واحدة، تأتي بأشكال هندسية مربعة أو دائرية، أو قلوب كبيرة تسع كل شيء، زاهية مُعطرة بالكاد تكفي لذكريات العام الدراسي، كنَّا نكتب لبعضنا عبارات جميلة انطباعاتنا حول الأصدقاء والأحلام والأمنيات بمستقبل جميل ينتظرنا، وقبل انتهاء العام الدراسي نطلب من المُعلمات أن يكتبن لنا حتى تبقى الذكريات، كنَّا نزيّن الأوتوجراف بملصقات ملونة تلمع لزهور وقلوب وشخصيات كرتونية أحببناها.

أوتوجراف الأصدقاء أولى الخطوات إلى عالم التعبير عن النفس والتوثيق، هي دفتر الذكريات الجميلة لمرحلة الطفولة، وذاكرة لمرحلة حياتية مفعمة بالنشاط. كنَّا نستمتع بقراءة ما يكتب عنَّا من كلمات، تنقلنا إلى عالم جميل عالم لا يفهمه إلّا من كان يملك أوتوجرافا.

كانت بداية الرحلة مع الكتابة والتعبير عما يجول بالخواطر، كثيرون بدأوا الكتابة في هذا العمر، سواء أكانت بكتابة أوتوجراف أو خواطر ويوميات وقصص...

وحتى اليوم لا أجد شيئًا أكثر إثارة من ورقة بيضاء، أسطّر عليها أفكاري، وأبوح بمكنونات النفس والعقل والقلب، حتى لوحة مفاتيح الكمبيوتر ليس بها متعة الكتابة على الورق، بالقلم وحده تشعر بمتعة البدايات، والأسى من النهايات، وإن كانت نهاية الكتابة تعني ولادة جديدة. أحسب أن الكتابة رفيق حياة لكل اللحظات الحلوة والمرة، رفيق ينصت ولا يخون.

الكتابة ولادة جديدة تبدأ بالمخاض، وتنتهي بمولود جميل يشعرك بالسعادة.وإن نهاية كل قصة انتصار للكاتب، ومتعة للقارئ وإضافة في رصيد المعرفة الإنسانية.تعد الكتابة بلسمًا للروح ولذة من الأعماق تدفعنا أن نكتب ليس فقط من أجلنا بل من أجل البشرية. يقول وليم شكسبير "عندما لا تجد من يسمعك اكتب؛ فالورقة كفيلة بأن تنصت لك".

كتب كثيرة حاولت أن تجيب عن تساؤل "لماذا ما زلنا نكتب؟"، بالرغم من وجود كتب إلكترونية وذكاءات صناعية، تؤلف لنا الكتب في سويعات قليلة، وشبكات الإنترنت التي أصبحت توفر لنا ما نحتاجه من معلومات، فلماذا هناك مؤلفون وكتاب وأدباء ومؤرخون وعلماء يكتبون، هل هي الرغبة في الخلود، أم توثيق المعرفة عبر الزمان؟

يقول جورج أوريل مؤلف كتاب "لماذا أكتب؟" "إن هناك دوافع كثيرة تدفع الإنسان إلى الكتابة منها، الرغبة في الظهور بمظهر الأذكياء، وإدراك جمال العالم والرغبة في سرد هذا الجمال، وتدوين التاريخ والأحداث للأجيال القادمة وأخيرا تغيير أفكار الناس لدوافع معينة".

ولكون الكتابة إبداع في حد ذاته ومتعة من نوع آخر، نجد أن الكثير من الكتاب والأدباء عرفوا بطقوسهم الغريبة لاستحضار الأفكار والكتابة، مثلا الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي كانت ترى في حوض الاستحمام مصدرًا للإلهام، ومارك توين من الكتاب الذين يفضلون الكتابة وهم مستلقون على السرير. أما الكاتب دان براون فقد كان يفضل أن يكون في وضعية الرأس على العقب والجلوس بالمقلوب، للتخلص من هروب الأفكار ويستطيع أن يقلب وجهة نظره! أو هكذا كان يعتقد.

يقول الكاتب أحمد خالد توفيق "لا أحد يكتب من فراغ، فكل ما نكتبه محشو في عقلنا الباطن بما قرأناه أو عايشناه نحن فقط نضيف إليه رؤيتنا". بالتالي فإن كل ما نكتبه يعكس دواخلنا، لذلك تعد الكتابة علاجا لكثير من الأمراض النفسية والجسدية.وهي تعتمد كعلاج نفسي تسمى "العلاج بالكتابة"؛ فالكتابة تساعدنا على إخراج أفكارنا وأحزاننا الدفينة وقد أثبتت الدراسات أنَّ 15 دقيقة من الكتابة اليومية لتمارين مُعينة يحددها الطبيب، كانت كفيلة بأن تحسن الحالة النفسية لمجموعة من الأشخاص الذين كتبوا في أربعة أيام متواصلة. بشكل عام تُساعد الكتابة الذين تعرضوا لحوداث أو مواقف صعبة أو ضغوط، في تخفيف معاناتهم واكتشاف معاني أخرى لتجاربهم معاني أكثر إيجابية.

العلاج بالكتابة يحسّن الذاكرة ويساعد على الاسترخاء، ويخفف أعراض بعض الحالات كالقلق والاكتئاب والوسواس القهري والشعور بالحزن ومشكلات التواصل، كما أن له تأثيرا إيجابيا على بعض الأمراض الجسدية، كالربو والتهاب المفاصل والإدمان وغيرها.

قرون طويلة وكان للقلم رونق وللكاتب مكانة بين صفوة المجتمع، فالكتابة بدأت مع بداية الحضارة وتشكيل التجمعات البشرية ومن ثم نشأة المجتمعات، وإن كنَّا في زمننا هذا تركنا القرطاس والقلم كما استغنى أجدادنا عن الألواح والعظام والجلود، واستعضنا بهما بكيبورد وكمبيوتر، فأفتقدنا رسم الخطوط الجميلة، ومهارات الخط واعتمدنا على الكمبيوتر، لتصحيح زلاتنا الإملائية والكتابية، ففقدنا جزءا من متعة حمل القلم ولمس القرطاس. هل نحن على موعد أن ننسى الكتابة إلى الأبد، حتى مفاتيح الكيبورد ستختفي مع التطور التقني الذي سيعتمد على التقنيات الصوتية مثل الكسا وغوغل هوم بديلا عن أزرار الكمبيوتر لإعطاء الأوامر، وعلى الكتب الصوتية والإلكترونية التي أصبح لها قطاع عريض من الجمهور. ينادي أنصار الكتابة بالتقنيات الحديثة بضرورة تعليم الطلبة بالمدارس مهارات الكتابية التقنية بديلاً عن الكتابة على الورق بما يتوافق مع احتياجات سوق العمل.لا أرى صواب في هذا الرأي فكما ذكرت سابقاً أن للكتابة استخدمات أخرى لتعزيز صحة الإنسان وسوف نحتاج إلى عقود لإيجاد بديل مناسب عن الكتابة اليدوية. فأنصار الكتابة على الورق ما زالوا على قيد الحياة ويتلذذون بالكتابة وقراءة النصوص الورقية فأين المتعة من قراءة رواية خالدة ك(الجريمة والعقاب) على جهاز كمبيوتر.

الكتابة ليست وسيلة نقل المعرفة فحسب؛ بل عالم من رسم الخيال وفسحة من الأمل ونجاة للبعض الذين يعتبرون عدم الكتابة نهاية فصول الحياة. لا يمكننا إيقاف قطار التطور العلمي والتكنولوجي السربع، فهل سنسدل الستار على عصر الكتابة إلى الأبد لصالح عصر الصوت؟