القادم من المجهول

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

 

وفَد إلينا من غياهب الفضاء السحيق قبل وجودنا، ومتحررًا من انفجار الكواكب الإثارية كما تسمى عند العرب قديمًا أو المستعرات العظمى حسب المصطلح العلمي العربي الحديث، ليستقر على أرضنا عندما كانت كتلة نارية غير صالحة للحياة فيتركز معظمه في نواتها إلا ما ندر على سطحها بما لا يزيد عن 4 جرامات لكل ألف طن على مستوى الخامات الصخرية، وبقي مجهولًا لحقبٍ زمنيةٍ مُتطاولة، تطورت فيها اللبنات الحيوية البيولوجية مع وحدات البناء الأساسية للأحماض الأمينية ونشوء أول جزيء بروتيني في رويةٍ وسكينةٍ وهدوءٍ شديد بعد التبرد واستقرار المناخ تمهيدًا لاستقبال وافد الإصلاح المختار الذي سيعمرها مستغلًا بدهائة الكائنات العضوية والمعدنية التي سبقته بآلاف القرون وكل ما تطاله يداه وما لا تطاله.

سوف نقفز الآن قفزة تاريخية طويلة في عمر الزمن الأرضي تساوي 4 مليارات عام تقريبًا ومتجاوزين محاولات النظريات الشبيهة بالخيال العلمي في تفسير البدايات التي لم نشهدها، ونركز على محورٍ واحد في حديثنا هنا، وهو الخليفة البشري الذكي الذي لم يكن قد أولى اهتمامًا رئيسًا بالمعادن في بداياته الأولى، ولكنه خلق في كبد وجُعل في عالم من التحديات مع إمكانية التفكير والتساؤل بكيف ولماذا وماذا لو، ثم التجارب الحثيثة وتقبل المحاولات المشوبة بالكثير من الفشل مع قابلية التعلم بلا يأس لتبسيط حياته وتسهيلها في إطار الأخلاقيات دون طمع أو جشع؛ وبدأ في تقليد الزراعة مع إدخال شيء من الصناعات البسيطة والصيد والرعي واستصلاح الأرض ثم حيازتها حيث إن التملك وإضفاء القيمة عليه فطرة أصيلة في النفس البشرية.

أصبحت حاجة الإنسان لمشاركة السلع والمنتجات مع غيره ضرورةً لابد منها وبذلك انتحل ما يعرف بالمقايضة صفة البيع والشراء على شكل مبادلة سلعةٍ بأخرى واتخذ حيزًا من الفاعلية العملية والانتشار التدريجي، وهذا نوع من أنواع التجارة قديمًا وإن كان اقتصاد اليوم لا يختلف عن ذلك كثيرًا من حيث المبدأ، وتواترت الصعوبات طرديًا مع ازدياد عدد المقايضين وتنوع المنتجات من حيث الكم في النقل والشحن والتخزين إلى الكيف في الإحصاء والتقييم والتسعير، فمن كان له ألف بعيرٍ لن يحصل على رطل عسل والعكس صحيح إلا بتقديم تنازلات قد تكون مجحفة أو قبول تفاهمات غير منصفة، الأمر الذي يتطلب معيارًا ثابتًا ذا قيمة لا تتغير لتجنب ما نعرفه اليوم بالتضخم، وهذا مادفع بإيقاظ المعدن النفيس وافد السوبرنوفا أو المستعر العظيم من سباته الأزلي وبروزه لتصدر المشهد التجاري قبل 5 آلاف عام تقريبًا؛ إذ يعتبر الذهب من العناصر النبيلة وهو مخزنٌ ثابتٌ للقيمة في ذاته لاعتباراتٍ كثيرة، أهمها ندرته واستحالة تخليقه صناعيًا بعد فشل كل محاولات السحرة والمشعوذين والسيميائيين.

 

وبمرور الوقت وازدياد الطلب على الذهب ظهرت صعوبات تداوله يدويًا فضلًا عن وزنه الثقيل ومخاطر تخزينه دون حماية وكما أن هناك منتجون مخلصون فهناك مناورون متلاعبون يسرقون بطرق قانونية جهد وتعب غيرهم، فلمعت فكرة إنسانية ذهبية للتبسيط والتسهيل والتي ستستمر إلى يومنا هذا وهي حفظ الذهب في مخازن محمية تسمى البنوك وإصدار صكوك تحمل نفس القيمة فيما يعرف بالأوراق المالية تُعطى لمن أراد حفظ ذهبه بمأمنٍ مقابل عمولة بسيطة، وبذلك تمثل تلك الأوراق قيمة معيارية معرفة بوحدة قياس الكتلة يغطيها الذهب تحت مُسمياتٍ كثيرة أشهرها الأونصة أو الأوقية ويشفع لها في قانونيتها وأهليتها في البيع والشراء، ليعود المعدن النفيس مجددًا إلى التنقل بين المخازن في سباتٍ مكتنزٍ ومتذبذب استمر في صعودٍ وهبوط طفيفين منذ روما القديمة وصولًا إلى الآباء المؤسسين في العالم الجديد الذين وثقوا الذهب والفضة وليس الدولار في دستورهم أساسًا للتعاملات التجارية حتى مابعد الحرب العالمية الأولى وتأسيس مجموعة ذكية مكونة من عشرة أفراد عام 1913 لم يعرف منهم سوى جي بي مورجان لنظام الاحتياطي الاتحادي أو الفيدرالي الأمريكي، والذي تعمدوا له اسمًا يوحي بصفته الحكومية وهو ليس كذلك؛ بل يعمل في معزلٍ تام عن الرقابة الحكومية ولا تسري عليه قوانينها، ولا يمكن التدقيق عليه، والذي ساهم كثيرًا في رفع معدلات التضخم من خلال سلطته على وزارة الخزانة وأمرها بطباعة الأوراق النقدية والتي بدورها تجني أموالها بفرض الضرائب على المواطنين، وعلى أثره تأسس صندوق النقد الدولي عام 1944 لمساعدة الدول على إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية من خلال منح القروض، علمًا بأن الولايات المتحدة هي الوحيدة المستثناة فيه بأحقية النقض "الفيتو" ولا يحق ذلك لبقية الدول الأعضاء.

يقول جون مينارد كنز: إن الاقتصاد سهل ولكن تعقيدة أمر مطلوب حتى لا يفهمه الناس لتقوم بعض الحكومات بأخذ مقدرات الشعوب دون أن يشعروا.

بعد الاتفاق الأمريكي الأوروبي على تثبيت سعر الصرف بحيث تكافئ الأونصة الواحدة (28.6 جرام) مقدار 35 دولارًا في مَجمَع لندن للذهب عام 1961؛ الأمر الذي لم تتقيد به الولايات المتحدة الأمريكية فمالبث المَجمَع إلا 8 سنين لينهار في نفس فترة اشتعال المظاهرات الطلابية الفرنسية التي أطاحت بالرئيس شارل ديجول عندما لاحظ التوسع الأمريكي في الإنفاق العسكري إبان حربها على فيتنام ومحاولته اليائسة بعد نجاته من الاغتيال للخروج من إتفاق الحلفاء حول اعتماد الدولار كعملة ذات مخزن قيمة مغطاة بالذهب.

ما أشبه اليوم الأمريكي العربي بالأمس مع الهزات الاقتصادية، فعند زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون للسعودية عام 1974 حاملًا تحت ردائه الخطة الجهنمية على خلفية حظر تصدير النفط العربي وفك ارتباط الدولار بالمعدن الأصفر لربطه بالمعدن الأسود، فيما عرف نجاح الخطة لاحقًا بـ"البترودولار"، ليعضدها الرئيس جو بايدن بزيارةٍ معززةٍ بعد مرور 52 عامًا على زيارة نظيره عندما لاح في الأفق الاقتصادي السياسي الروبل الروسي واليوان الصيني المشفوعان بغطاء ذهبي بالتنافس الحقيقي في سوق النفط مع الدولار، والذي لم يعد يشفع له الذهب بقدر ما تشفع له القوة والخوف والأمل على وجل، ومهما كانت مواضيع الخلاف الأمريكي العربي إلا أن الرئيسين قد اتفقا على محاولة إنقاذ اقتصاد بلادهم من وحش التضخم المؤرق لسطوة الدولار الواقع بين ناب الذهب الأصفر ومخلب النفط الأسود.

يُعتبر الورق النقدي مالًا أصليًا إذا طبعت عملاته على أساس مخزون الذهب وهذه هي القصة الحقيقية بكل اختصار، عدا ذلك فهي أوراق وهمية تتقمص شخصية المال في مسلسل لا ينتهي من المشادات والتجاذبات وتستمر كتابة حلقاته لأطول فترة ممكنة حتى يشعر المتابع بالسأم والملل ومن لم يتابع لن يفهم شيئًا، والدولة التي تملك بيدها قرار الحفاظ على استقرارها الاقتصادي هي الدولة التي تملك مخزونا احتياطيا من الذهب يكافئ أو يقترب من مستوى طباعة عملاتها النقدية المحلية دون الاعتماد على عملات أخرى مهددة بفقد قيمتها أو متأثرة باقتصادات تتأرجح بين طمع وجشع المصالح وغش وخداع المكاسب السياسية والتملك والاستحواذ بالقوة العسكرية لتتضخم اليوم ويتضخم العالم معها أو تنكمش في الغد فتسحق العالم وتعيده بانكماشها إلى أحقاب ما قبل المقايضات حيث المعادن النفيسة لا تُؤكل ولا تُشرب ولا تسمن ولا تغني من جوع؛ إذ لا معنى لبريقها ولا قيمة.