التمييز المجتمعي الحديث

 

أمل اليافعي

ممرات الدنيا كثيرة ومسارات الحياة مُتعددة، تعبر خلالها كأنك في متاهة شاسعة، لا بداية لها ولا نهاية، كعبورك في نهر جارف يجبرك على مجاراته رغمًا عنك وأنت تتلاطم مع موجاتها السريعة، لا تفكر إلا بطريقة مثلى لقطعه والوصول إلى الضفة الأخرى مهما كلفك الأمر، لتتمكن من إيجاد المسار الملائم لك في مكان مختلف قد لا ينجرف إليه أحد غيرك ولا يعي تميزه عن مسار النهر إلا قلة قليلة لا تكاد تصارع لخلاصها مثلك، أو أن تستسلم لذلك الانجراف وتتبع سيره وتنصاع لشده وجذبه وارتطامه لتصل إلى ما وصل له غيرك وتكون رقمًا إضافيًا في قائمة التكرار الأزلي، لا يعرف عنك شيئًا سوى أنك كنت تساير "الجميع".

هذا الوصف البسيط لعنوان هذا المقال الذي خطر ببالي حين أرى طفلًا مميزًا عن أقرانه ومن حوله، لا ينساق نحو بني عمره إلا باختلافه الخلاب، يتضح منه أنه سيكون ذلك المختلف الجذاب، سلوكه المثير يميز طريقة تفكيره بفرض عقليته الخفية، ليس من السهل معرفة ما يجول في ذلك الدماغ الصغير، يفاجئك بأسلوبه وطرق وصوله لهدفه، تارةً يتملكه الهدوء عندما يتمحص ما يرى، وتارةً يملأ صراخه الأثير عندما يصل لاستنتاج معين، في حين يظن البعض ذلك الهدوء مرض وذلك الصراخ بداية الشيطنة، دون إعطاء أدنى فرصة لمحاولة استيعاب ذلك العقل الفريد، فيصبح ذلك الطفل المنبوذ الوحيد الذي لا يرغب الأهالي في تواجده حول أبنائهم خوفًا من تأثيره عليهم.

وما تعانيه الأم التي لا تنفك تقسم وقتها بين عمل وأبناء ومسؤوليات وواجبات، معتادة على تقديم ما لديها لعون غيرها، فلا تترك طفلها يفتقد حضنها ومبسمها، ولا تنسى تفقد حاجات دارها، ولا تجعل أوراقها مبعثرة على طاولة عملها، ولا تتردد في رعاية مريضها، حتى تكاد تنسى ساعات نومها وحق نفسها عليها، وذلك كله لا يزن مثقال ذرة في أعين غيرها، واستحالة وصولها لأي مرحلة قبول في هذا المجتمع الذي لا يكتفي بما يراه منها بل ويطلبون منها المزيد، حتى في عدد أبنائها وفارق السن الكافي بينهم، والحقيبة الثمينة التي يجب أن تمتلكها والساعة الماركة التي لابد أن تزين يدها وتلك الخامة التي تغطيها بختم لافت وحذاء مترف لترقى لمستوى مجتمعي مناسب، وإلا فستعتبر متخلفة وغير حضارية وغير متقلدة لعاداتهم المجتمعية، فلا تتم دعوتها لأغلب المناسبات والزيارات ولا الرحلات والاجتماعات، لأنها لم ترقَ للمستوى المطلوب ولم تنجز تلك القائمة التي يطول تحديد نقاطها لأنها ليست إلا شكليات محدثة لا تنتهي مهما حققت منها.

وما عاصره ذلك الموظف الشغوف، الذي لا يتردد في تأدية عمله وحتى تعاونه في مساعدة زملائه كي لا يؤخر مراجعاً أو يطول تسليم تقرير، ذلك الذي يكون فذًا في مجالات عديدة تفوق مكانه الوظيفي لكنه لم يجد الفرصة الملائمة له، وبالرغم من ذلك يجد من يحاول ركنه في الزاوية دون مهام تذكر، وسيلة التثبيط الجبارة كالتهميش غير المباشر لتبدأ وخزات الإحباط بالتزايد مع مرور الوقت، وكأن تميزه واجتهاده كان سببًا في محاولة "كسر مجاديفه" مثلما يقال. غير أن هذا الموظف لم يتم تثمين قدراته وإعطاؤه المجال الملائم لرفع جودة العمل ونتاجه، رغبةً منهم في استمرار المسار المعتاد، والمشي بجانب الحائط والسير في الظل، ذلك الروتين القاتل يكون غالبًا على التطوير المجدي والتمكين المحدث، فلا يرى فائدة في خبراته أو شهاداته مادام مصيرها الارتكان، فيصبح محيط عمله مزارًا إجباريًا لقضاء الساعات المفروضة حتى يتقاضى عليها راتبه المحدد دون أدنى جهد يذكر.

هو ذا التعنصر المجتمعي الذي نعيشه، كُن لا تكن، تعايش لا تعِش، سايِر لا تَسِر، ماشِ لا تمشي، واسعِد لا تَسعَد. سلوك مجتمعي رجعي بالرغم من التحضر وازدياد الوعي، تكون فيه العنصرية لاشتراطات الفئة المُستَسئِدة على الأفراد المتميزين، لاسيما الذين يستطيعون الوصول لأقصى مستويات النجاح والتألق مع توفر البيئة الملائمة، فلا يجدون إلا مثبطي الهمم، ثقيلي العزم، بطيئي النتاج ومتعففي الأخلاق الشكلية، حتى لا يكون ذلك المتميز بارزًا عليهم ولا يؤثر على آليات الرتابة المحددة لديهم ولا درجات مساعيهم المرسومة. التعنصر أساء لمعنى التكاتف والتأقلم والتفاهم وغيّر بهرجة عناصر المجتمع وتلاعب بأهدافها السامية ورُقِيّها المعهود، وجحد كل طرق التعايش المرموق والنوايا الحسنة لكونه يخشى أن يضيء غيره فيدحض وميضه المبتذل. ولا رادع لهذا إلا بالتفكر والتأمل بما هو صحيح والتمسك به والعمل به حتى وإن لم يتقبله البقية، ففي نهاية المطاف سوف تصل لتلك الضفة وتأخذ نفسًا عميقًا حين تعلم أنك اجتزت الأمواج الجارفة والغرق المحتوم والمسار المرسوم، لتصنع لذاتك عناصر حقيقية مستمدة من قوتك وبسالتك وعهدك بالمجتمع السليم المسالم.

تعليق عبر الفيس بوك