عُمان ومصر.. وحدة الهدف

الزيارة التاريخية لجلالة السلطان إلى مصر تترجم العلاقات الراسخة بين مسقط والقاهرة

التعاون الاقتصادي والاستثماري بين عُمان ومصر يعود بالنفع على البلدين

الحكمة العُمانية بحنكتها تتلاقى مع الاتزان المصري بعقلانيته في "قمة القاهرة"

حاتم الطائي

ترتكزُ العلاقات العُمانية المصرية على إرثٍ تليدٍ من التعاون والتوافق والشراكة في العديد من المجالات، فابتداءً من الامتداد الحضاري الضارب في عمق التاريخ، عبر حضارتي عُمان ومصر القديمتين، وقوافل تجارة اللُبان وغيرها، مرورًا بالمواقف العروبية لعُمان الداعمة لمصر في فترات عصيبة مثل مرحلة ما بعد حرب 1973 وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، وحتى الوقت الراهن، والمؤازرة العُمانية لمصر في استعادة مكانتها بعد سنوات عاصفة في العشرية السوداء.

ولا شك أنَّ الزيارة التاريخية التي يقوم بها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- اليوم إلى جمهورية مصر العربية، تؤكد قوة ورسوخ العلاقات العُمانية المصرية، وتُبرهن بشدة على مدى الحرص العُماني على بناء توافق عربي جامع فيما يتعلق بالقضايا المصيرية والحيوية لمنطقتنا، في ظل ما يموج بالعالم من صراعات وحروب وأزمات اقتصادية وتحوّلات حادة في مسار السياسات العالمية على المستويات كافةً. هذه الزيارة السامية الكريمة لجلالة عاهل البلاد المُفدى- أيده الله- تحمل الكثير من الدلائل وتبعث بعدد من الرسائل التي ينبغي قراءتها وتحليلها وتسليط الضوء عليها.

الدلالات التي نتحدث عنها تنقسم إلى شقين أساسيين؛ الأول سياسي، والثاني اقتصادي، وما بينهما من جوانب أخرى تدعم مسيرة العلاقات والوصول بها إلى آفاق أرحب بما يُلبي تطلعات قائدي البلدين وشعبيهما. أما فيما يتعلق بالشق السياسي، فهذه هي الزيارة الأولى لجلالة السلطان إلى مصر منذ توليه مقاليد الحكم في البلاد، وتأتي تلبية للدعوة الكريمة التي وجهها فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي، لجلالة السُّلطان، خلال زيارته لعُمان في يونيو من العام الماضي. الأمر الثاني أنَّ جلالته لم يقم بأية زيارات رسمية خارج منطقة الخليج منذ توليه مقاليد الحكم؛ لتكون مصر بذلك الدولة الأولى خارج منطقة الخليج التي يزورها جلالته، ولا شك أنَّ ذلك يترجم الإيمان العميق بالدور الإقليمي والعربي لمصر وأهمية التعاون والتنسيق في عدد من الملفات، لا سيما وأن منطقتنا العربية، تشهد انفراجات سياسية وعسكرية مُتعددة، أهمها على الإطلاق استئناف العلاقات السعودية الإيرانية، وتوقف الحرب في اليمن (على الأقل عمليًا على أرض الواقع)، وكذلك عودة الجمهورية العربية السورية إلى الحاضنة العربية الكبرى، وحضور الرئيس السوري بشار الأسد القمة العربية في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، إلى جانب تراجع الكثير من الخلافات العربية- العربية، علاوة على المساعي العربية الحثيثة من أجل إنهاء الصراع في السودان الشقيق، والعمل على رأب الصدع بين القادة العسكريين هناك، وهي الجهود التي تكللت بالتوقيع على اتفاق المبادئ الإنسانية في جدة.

الشق الثاني من الدلالات التي تعكسها الزيارة السامية الكريمة لمصر، يتمثل في الملف الاقتصادي، وعندما نتحدث عن الاقتصاد، فإننا نشير بوضوح إلى العصب والعمود الفقري الأساسي في نهضة الدول وازدهار معيشة الشعوب، فلا تقدم دون تنمية اقتصادية تستفيد من كل الموارد المُتاحة وتعمل على تنميتها، وتطويرها بما يعود بالفائدة على نمو الاقتصاد وتحسن حياة الناس. وعُمان ومصر دولتان واعدتان على المستوى الاقتصادي، ولا ريب أن أي تعاون بينهما في الجانب الاقتصادي يعود بالنفع على كلا البلدين، فعُمان باقتصادها النامي وبيئة أعمالها المُواتية والجاذبة لكل الاستثمارات، وقوانينها المُيسِرة للاستثمار الأجنبي، وموانئها المتقدمة والمفتوحة على أبرز الوجهات العالمية، شرقًا وغربًا، وبنيتها الأساسية المتينة، وتفوّقها اللوجستي المتمثل في منظومة طرق وشرايين حيوية من منافذ جوية وبرية وبحرية، كل ذلك يمثل عناصر جذب لا محدودة للاستثمارات المصرية. والأرقام الرسمية توضح أن الشركات المصرية المُستثمرة في عُمان يصل عددها إلى 1900 شركة، وهو رقم جيد، ونأمل زيادته، بناءً على عمق العلاقات والروابط التي تجمع البلدين الشقيقين.

في المقابل، تُمثل مصر وجهة مُتميزة في استقطاب رؤوس الأموال العُمانية، وفرصة للمستثمرين العُمانيين لجني أرباح كبيرة من الاستثمار المباشر في مصر، فالسوق المصرية بضخامتها (كونها أكبر سوق عربي من حيث عدد السكان)، وتنوع المستهلكين فيها، وما تشهده مصر من نهضة شاملة خلال السنوات التسع الأخيرة، تغيرت على إثرها الصورة النمطية لمصر وتجلت معها حقيقة البيئة الاقتصادية الجاذبة، فرُغم تحديات التضخم في مصر (وأغلبه تضخم مستورد نتيجة التطورات الجيوسياسية والحروب والصراعات والأزمات الاقتصادية العالمية وقرارات رفع الفائدة الأمريكية) واستمرار بعض الإجراءات البيروقراطية التي قد تحد من سهولة الاستثمار، وكذلك عدم وجود سعر صرف ثابت للجنيه المصري، إلّا أنَّ الحوافز الاستثمارية ومعدلات تحقيق الربحية ما تزال مرتفعة، مُقارنة بالأسواق الناشئة الأخرى. فعلى سبيل المثال ما زالت تكلفة العمالة في مصر أقل من نظيراتها، وكذلك تكلفة الطاقة وتوافر المواد الخام المحلية، وسهولة تحويل الأرباح الرأسمالية للخارج، أو التخارج من الاستثمارات، وافتتاح مناطق اقتصادية وحرة وصناعية واعدة في عدد من المدن المصرية؛ سواءً المُطلة على البحرين الأبيض المتوسط أو الأحمر، هذا إلى جانب المنطقة الاقتصادية الخاصة في قناة السويس؛ المجرى الملاحي الأكثر أهمية في العالم، والذي يربط شرق العالم بغربه، وشماله بجنوبه. وهذه لا شك عوامل جاذبة لأي مستثمر، يبقى فقط أن تتذلل بعض المعوقات سواء الخاصة بسرعة إنجاز الإجراءات أو ما يرتبط بمسألة سعر العملة.

إذن نحن نتحدث عن أوضاع سياسية واقتصادية تشهد الكثير من التطورات التي تفرض على الدول المؤثرة في الإقليم وصاحبة الرؤية السياسية والدبلوماسية الرصينة التي يشهد لها القاصي والداني، أن تتحمل مسؤولياتها تجاه دعم وترسيخ الاستقرار، وعُمان في صدارة هذه الدول؛ إذ لا يخفى على أحد مدى الحصافة الدبلوماسية العُمانية، وبُعد نظر السياسة الخارجية لعُمان؛ بل والأهم دقتها وصوابها وتوافق الآخرين عليها والسير على نهجها في نهاية المطاف، ليؤكد ذلك أنَّ عُمان بدبلوماسيتها الهادئة البعيدة عن الصخب الإعلامي و"الشو" السياسي، قادرة على تقريب وجهات النظر وإذابة الجليد في العلاقات بين الدول، وإطفاء نيران الحروب والمعارك، بكل حياد ونزاهة وشرف وأمانة وإخلاص، دون أن تكون لها مصالح أو مآرب ذاتية، وعلى الجميع أن ينظر في كل علاقات عُمان بمحيطها الإقليمي والخليجي والعربي، وكذلك علاقاتها مع العالم الخارجي في أوروبا وأمريكا؛ فالمؤكد والثابت والراسخ أن عُمان دولة مبادئ، وصاحبة دبلوماسية نادرة، وحاملة لواء الاستقرار والسلام القائم على العيش المشترك والتسامح والإخاء.

ولذلك عندما نقول إن عُمان ومصر صاحبتا مواقف متطابقة ورؤى سياسية مشتركة إزاء العديد- إن لم يكن كُل- القضايا حول العالم، فإنَّ هذا القول ينبع من الإيمان العميق بمدى حرص البلدين على التطور والازدهار ومصالح الشعوب، بعيدًا عن دهاليز السياسية وخنادقها، والتزامًا بنهج الحياد الإيجابي، والسعي المشترك نحو التنمية التي تعود بالنفع على الشعوب؛ لأنها غاية كل عمل تنموي، فعُمان ومصر تشتركان في وحدة الأهداف، التي على رأسها التنمية الشاملة والمستدامة، وترسيخ السلام والاستقرار، وبناء الدول والحفاظ على تماسكها في وجه التحديات والمحن.

ويبقى القول.. إنَّ الزيارة السامية لجلالة السُّلطان المعظم- نصره الله- إلى جمهورية مصر العربية الشقيقة، ولقاء جلالته بأخيه فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي، تمثل دفعة جديدة في مسيرة العلاقات الثنائية بين عُمان ومصر، وتنطوي على أهمية كبرى سياسيًا واقتصاديًا، وستعود فوائدها بالخير العميم على شعوب المنطقة؛ فالحكمة العُمانية بحنكتها وحصافتها، عندما تتلاقى مع الاتزان المصري بعقلانيته ورشاده، فهي بلا شك تُفضي إلى نتائج إيجابية، ومواقف وسياسات نافعة يجني ثمارها شعبا البلدين، وشعوب المنطقة أجمعون.