د. عبدالله باحجاج
بُعيْد تطبيق الحكومة خطة التوازن المالي "2021- 2024" قلنا في مقال إنَّ هذا التوجه ليس لمواجهة أزمتي النفط وكورونا وحل أزمة المديونية الضخمة التي ظهرت بين عشية وضحاها، وإنما هي تؤسس مرحلة مالية معاصرة بقيادة الجبايات (الضرائب والرسوم)، وفق مفهوم جديد لدور الدولة، وأكد صحة رؤيتنا يوم 16 أبريل 2021 عندما تم تطبيق ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5%، وأصررنا في كل مقالاتنا اللاحقة وحتى الآن على رؤيتنا، ليس تشكيكًا في صحة الأزمتين، لكن الحكومة وجدت فيهما سببًا لتمرير الانتقال لعصر الجبايات، وستستمر المساعي لإقامة منظومة جبائية/ ضريبية متكاملة، بصرف النظر عن ارتفاع أسعار النفط والغاز، وعن الاقتصاد الإنتاجي الواعد الذي يتأسس الآن على مصادر مستدامة وآمنة: كالطاقة النظيفة.
ويتطور الخطاب الحكومي مع تحسين إيرادات الدولة من النفط والغاز، فمن خطاب تبرير الجبايات لتعويض نقص مداخيل الدولة من النفط والغاز، إلى اعتبارها الآن كمصدر دخل ثابت ومضمون لتمويل الأنشطة والبرامج الحكومية، مثل المدارس والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي.. من هنا يأتي الحديث عن قانون الحماية الاجتماعية، كحق اجتماعي مقابل واجبهم الضريبي المُلزِم، ورغم ذلك، يختلف عليه مجلس الشورى المنتخب، مع شريكه مجلس الدولة المُعيَّن؛ حيث ينصِّب هذا الأخير نفسه عقلًا حكوميًا خالصًا في مرحلة قراءته كمشروع قانون بتعديلاته المقدمة من مجلس الشورى، واضعًا الأثر المالي للقانون على موازنة الدولة كعربة في مقدمة القانون، ومن ثم يربط موافقته عليه بإثبات استدامته المالية أولًا.
ونشم هنا رائحة ضرائب جديدة لضمان الاستدامة، وهو ما لا تسمح به المرحلة الوطنية الراهنة، وهذا ما يُفسِّر لنا تدخل أصوات حكومية بتأجيل بعض حقوق الحماية الأساسية للمواطنين، كحق البطالة، وحق التأمين الصحي بحجج غير مقنعة مثل تسرب تفاصيل مواد قانون الحماية الاجتماعية، ومن ثم زيادة عدد الباحثين. ويقود المسار الجبائي، والمسارات المرتبطة به، أعمق التحولات في بلادنا، فهو الذي فتح البلاد لمستثمرين أجانب، ولديموغرافيات وافدة، ومعها تتغير بصورة ديناميكية الكثير من المفاهيم القديمة والجديدة، من أبرزها المفهوم السياسي للمحافظات وولاياتها، فقيمتها تقدر الآن بحجم مواردها السنوية لخزينة الدولة (ضرائب ورسوم)، وهنا تقف معضلة عدد سكان كل محافظة؛ لأنه كلما يكون العدد قليلًا، تكون الإيرادات قليلة، والعكس صحيح. من هنا يُفسَّر لنا فتح المحافظات "ظفار نموذجًا" على ديموغرافيات وافدة، وبالأعداد الكبيرة، وغير المنضبطة، وغير محسوبة المآلات المستقبلية من مختلف النواحي، لأن الأهم حجم الإيرادات.
في ظفار نقف مندهشين من انفتاحها الديموغرافي فجأة بعد انغلاقها لخمسة عقود متواصلة، وقد أصبح بإمكان كل فرد أجنبي أن يدخلها من "بوابة المستثمر"، وقد تحول المسمى الآن إلى "الشريك الإداري"؛ فبمجرد دفع 650 ريالًا، يمكن للأجنبي تأسيس كيان معنوي في بلادنا، ووفق ما كشف لنا مستثمر من دولة مجاورة، فإن عدد المستثمرين من بلاده الذين دخلوا في سنة واحدة، أكثر من 48 ألفًا، ولو ضربنا هذا العدد في ثلاثة كمتوسط أسري مرافق مع المستثمر، فسنجدهم يبلغون 144 ألفًا، وعندما نقابل بعض المتسولين في المساجد، أو نستفسر عن قانونية إقامة بعض البائعين / البائعات على الطرقات، وهم من جنسيات متعددة، نجد شرعية وجودهم القانوني في بطاقة المستثمر!
تعلمُ السياسة الجبائية/ الضريبية هذه الخلفيات، ولا تكترث بها، لأن هدفها جبائي في المقام الأول، وتحققه بامتياز، وهو ضخ المزيد من الأموال إلى خزينة الدولة، فمن يهتم بالجوانب الأخرى غير المالية؟ ولا يمكن إغفالها، فتعويم الديموغرافيات المحلية بديموغرافيات وافدة "عدديًا" سيؤثر على منظومة القيم والعادات للمجتمعات المحلية من جهة، وسيُفكك الكتل الصلبة "المادية والفكرية" من الداخل تدريجيًا من جهة ثانية، وسيُغيِّر سريعًا من الخارطة السكانية من جهة ثالثة، وستصبح المجتمعات المحلية مفتوحة لكل الاحتمالات، خاصة اذا ربطناها بسياقات أخرى مثل السماح بالزواج من الأجنبي، وقضايا الباحثين عن عمل، والرواتب الضعيفة، وقضايا ارتفاع نسبة الطلاق والمخدرات.. إلخ.
والمطلوب سريعًا، عقلنة جنوح المسار الجديدة، مثلما عملت الحكومة في إعادة رسوم الكثير من الخدمات المبالغ فيها، وإعادة الاعتبار للنظرة الاستراتيجية للمحافظات التي يؤكد عليها عاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- في كل لقاءاته مع شيوخ كل محافظة، وجعلها تقود تأسيس اقتصاديات إنتاجية محلية عبر استثمار موارد كل محافظة، عوضًا عن زيادة عددها السكاني من ديموغرافيات وافدة لدواعي التحصيل الجبائي (ضرائب ورسوم) واعتبارها كمصدر للدخل، فهذا طريق شائك، وفيه من المحاذير ما ينبغي لفت الانتباه إليه من الآن، وذلك حتى لا تترسخ وتتعمق انعكاساتها داخل البنيات الاجتماعية، وتؤسس في كل محافظة واقعا جديدا غير مسبوق، ومفتوح لكل الإكراهات الأجنبية.
ونقول أخيرًا.. إن إقامة منظومة ضريبية متكاملة لن تكون صالحة لمستقبل الاستقرار في بلادنا، ولا ينبغي أن تكون بديلًا عن الاقتصاد الإنتاجي أو منافسًا له، وبلادنا قد خرجت من ضغوطات الأزمات المالية المباشرة وغير المباشرة، وعادت بقوة إلى العصر الذهبي للنفط والغاز، صحيحٌ لا يمكن الرهان عليهما- النفط والغاز- إلى الأبد، لكن تتجدد صلاحيتهما لثلاثين سنة مقبلة، وفق آخر التقديرات العالمية؛ إذ إن بلادنا تأسس قوتها الاقتصادية من الطاقة النظيفة، وهي ناجحة فيها، باستثمارات ضخمة، وباتفاقيات دولية، وهذا يُغيِّر من الفكر الجبائي بصوره سالفة الذكر، ويجعلنا نغلِّب خيار الضرائب والرسوم الذكية التي تعيد تطوير الفكر الاجتماعي مع الحفاظ على أهم الثوابت، ومراعاة التحديات الجيوسياسية.