أُمة واحدة بقلوب شتى

 

علي بن سالم كفيتان

 

ظلت جامعة الدول العربية حُلمًا يراود كل عربي بأن تكون المهد لوحدة عربية؛ فالزعيم جمال عبد الناصر سعى لتحقيق الحُلم وعمل حتى آخر لحظات حياته لتحقيقه، لكن التجربة اصطدمت مع الواقع الذي خلّفه الاستعمار الغربي لكثير من البلدان العربية، فالشعوب التي حررت بلدانها بمواجهات دامية ودفعت فاتورة باهظة للحرية كالجزائر- على سبيل المثال لا الحصر- لم تكن مستعدة للتوافق مع الدول التي كانت تحت الانتداب وانسحب المستعمر منها، بعد أن مهد للمرحلة التالية، فقد نُظر لتلك الخطوة على أنها استعمار مُقنَّع، في الوقت التي نظرت فيه الدول التي نالت استقلالها بهدوء ودون إراقة قطرة دم واحدة على أنه إنجاز غير مسبوق، فظلت نظرة كل طرف إلى الآخر قائمة على ذلك الأساس، لهذا لم تحقق الجامعة حُلم الشعوب العربية، لكنها ظلت خيمة تجمعهم إذا احتاجوا إلى استعادة مجدهم وانتمائهم المشترك.

العرب من المحيط للخليج يرون في اجتماعات جامعة الدول العربية مجرد برتوكول يذكرنا بأننا أمة واحدة بقلوب شتى، وقد يسأل البعض: هل سبق وأن قامت دولة عربية واحدة وبسطت نفوذها على جميع الأقطار العربية يومًا ما؟ وهنا قد يخلط البعض بين الدولة الإسلامية والكيان العربي، وهما شيئان مختلفان؛ فالعرق لوحده لم يستطع طوال قرون تأسيس كيان سياسي يضم الوطن العربي بأكمله. صحيحٌ قامت ممالك وسلطنات وجيوب للنفوذ القبلي تدور في فلك ما جاورها ومصطبغةً بالرداء الديني في بعض الأحيان، لكنها ظلت بعيدًا عما يُعرف بكيان بناء الدولة الموحدة، وبالتالي يصعب على المواطن العربي استيعاب مرامي وأهداف الأنظمة العربية من بقاء الجامعة على وضعها الحالي، فربما الرسالة لم تصل صحيحة، وربما يُراد لها أن تكون مبهمة، وربما الأنظمة نفسها تجري في فلك وجدت نفسها فيه، حفاظًا على ما تبقى من عروبتنا كما يقولون.

فما أسهل أن يعزل العرب عضوًا في جامعتهم، بينما تكون العودة بحاجة لمباحثات وسيل من التنازلات، بعضها معلن، وأغلبها غير ذلك، ليتم الاحتفال بالقادم الجديد الذي حجب عنه مقعد العروبة بالأمس، ويعد ذلك إنجازًا عربيًا عظيمًا. وما بين العزل والعودة ينظر العربي للأمر وكأنه لا يعنيه؛ فهي مجرد مماحكات بين الأنظمة لا علاقة لها بالشعوب.

إن العمل السياسي الرصين الذي يقود للوحدة له منافذ كثيرة وليس بالضرورة أن تكون الوحدة هي التنازل عن كيان الدول القائمة اليوم، ويمكننا النظر للتجربة الأوروبية والاستفادة منها؛ فالاتحاد الأوروبي لم يلغِ الكيانات السياسية لدولِهِ، ولا حكامها، ولا أنظمتها الداخلية؛ بل جاء لينظّم سلاسة الحركة بينها وتطوير العجلة الاقتصادية والتبادل السلعي من خلال نظام موحد للدخول والخروج، ومحطة واحدة للجمارك وتوحيد العملة، وهذه هي العوامل التي أحدثت الفارق في أوروبا، في حين ظل الدفاع المشترك مرتبطاً بحلف شمال الأطلسي "ناتو" مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى ليست عضوًا في الاتحاد. فلماذا نحن العرب نصعِّب الأمر على أنفسنا ونربط الاتحاد العربي بتخلي القادة عن عروشهم؟ هناك مساحات أرحب للعمل العربي المشترك بعيدًا عن جزئية ما يعرف بحق السيادة الذي قضى على أحلام الشعوب العربية بالوحدة والعيش المشترك وتقاسم الفرص وتبادل المنافع.

وليس بعيدًا عنا حادثة مقاطعة مصر بعد توقيعها اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني؛ فالمنطق يقول من حق جمهورية مصر العربية مثلما خاضت الحرب لاستعادة أراضيها أن تبرم السلام، ولا يعني ذلك التنازل عن فلسطين ولا حق شعبها العادل باستعادة وطنه، لكنها كانت فرصة سانحة للفلسطينيين في ذلك الوقت للدخول مع الجانب المصري المنتصر في الحرب أمام تراجع الكيان الصهيوني المنهزم للحصول على بعض مما يطالبون به اليوم. وبعد سنين المقاطعة علم العرب أن لا معنى للجامعة دون مصر؛ فجمهورية مصر العربية هي العضو المؤسس وصاحبة فكرة الجامعة العربية وهي الثقل السياسي والظهير السكاني والاقتصادي والأمني للعرب، ومع ذلك لم نستفد من التجربة، فتم تجميد عضوية سوريا بعد أحداث ما يُعرف بـ"الربيع العربي"؛ لتصبح وحيدة في مواجهة الدمار والتخريب الذي تعرض له كيان الدولة السورية بشكل ممنهج من لاعبين إقليميين ودوليين. واليوم ها هي سوريا عادت لجامعتنا العتيدة، فما الذي ستقوله للعرب بعد سنين القطيعة والعزلة والحرب؟ ربما العتب من المحبة كما يقولون.

كما عانت العراق وليبيا واليمن وتونس من التدافع الداخلي والتدخل الخارجي من أجل التغيير؛ فالعراق يتعافى تدريجيًا، بينما ليبيا واليمن والبقية ما زالوا في مرحلة المخاض السياسي العسير الذي لم يشهد ولادة حكومات بديلة للأنظمة التي ثارت عليها الشعوب ووصمتها بالدكتاتورية، في الوقت الذي دخل فيه السودان على الخط وأدخل معه العرب إلى ساحة خلاف جديدة، قد تفضي لتقسيم السودان بين العسكر، فما أشبه اليوم بالبارحة، عندما كان جون قرنق نائبًا للبشير، وبعدها أصبح رئيسًا لدولة جنوب السودان، فهل نتوقع عودة ذات السيناريو إلى السودان اليوم؟ وهل تملك الجامعة العربية وقف ذلك؟

كلها أسئلة تتدافع في داخل الضمير العربي الموعود بالوحدة والسلام والرفاه الاقتصادي، ولا تجد إجابات شافية!